“هويته شو” (استعراض اليوم)، احد أكثر البرامج السياسية الساخرة شعبية في ألمانيا، يبث أسبوعيا على كبرى القنوات العامة الألمانية وهي القناة الثانية (ZDF). البرنامج الجريء الذي يتخذ من السياسة والسياسيين الألمان وقودا لمادته الإعلامية الساخرة ويقوم بملاحقتهم وإجراء مقابلات تلفزيونية معهم ذات طابع فكاهي ومحملة بأسئلة “ملغومة”، ولكنها تشير في العادة إلى فضائح ومواقف متناقضة لهؤلاء الساسة، الأمر الذي جعله يلقى رواجا شديدا لدى جيل الشباب تحديدا. ونظرا لهذا النجاح قررت ادارة البرنامج قبل عدة اسابيع التوجه الى البرلمان الألماني (بوندستاغ) والطلب منه الحصول على إذن تصوير بعض المشاهد داخل أروقة البرلمان نفسه، الا أن الأمر قوبل في حينه بالرفض.
قرار المنع هذا أثار قلق عدد من وسائل الإعلام الألمانية، حيث تساءلت حول مدى توافق ذلك مع قوانين حرية الإعلام والتعبير عن الرأي. كما أثار القرار سخط العديد من محبي ومتابعي البرنامج، فقاموا بإرسال أكثر من 600 رسالة احتجاج إلى رئاسة البرلمان، فما كان من منها إلا أن تراجعت عن قرارها وسمحت بالتصوير داخل البوندستاغ. قرار المنع في بادئ الأمر يوحي بأنه حتى في بلد مثل ألمانيا يوجد هناك نوعا من التحفظ لدى السياسيين إزاء مثل هذه البرامج، إلا أن العودة عن قرار المنع تثبت أن قوة القانون أقوى من رغبات السياسيين، وأن مسألة الحفاظ على الحريات الإعلامية ليست مجرد مادة منصوص عليها في الدستور الألماني، وإنما هي بمثابة واقع يعيشه المواطن الألماني في حياته وعمله وبيته.
القنوات الرسمية أكثر “تحرراً”
يرى خبير الإعلام البروفسور فروبرودت أن القنوات التلفزيونية الرسمية في ألمانيا تبدي تحرراً أكبر في الكوميديا السياسية
في معرض تعليقه على هذا القرار أشار الخبير الإعلامي الألماني، البروفسور لوتز فروبرودت، في حديث مع DWعربية، إلى أن “قنوات التلفزيون الرسمية لديها ثقافة إيجابية في احتضان الأصوات ’المتطرفة من الكوميديين السياسيين، وحتى أولئك الذين ينتقدون الحكومة والبرلمان إجمالا، وتفرد لهم مساحات بث واسعة في أوقات الذروة”. يشار الى أنه بالإضافة إلى برنامج “هويته شو”، الذي يستقطب نحو ثلاثة ملايين مشاهد أسبوعيا، هناك مجموعة من الكوميديين السياسيين الذي يتصيدون أخطاء الساسة الألمان وزلات المستشارة أنغيلا ميركل، لتصبح مادة دسمة لانتقاداتهم الفكاهية والتي تحمل رسالة نقد مبطنة.
ويفسر فروبرودت هذه الجرأة لدى برامج السخرية السياسية بالثقافة التي كانت سائدة في ألمانيا، علاوة على ضمان الدستور لحرية الرأي والحرية الصحفية، التي تشمل أيضاً السخرية السياسية، وارتباط ذلك بعدم تكرار التاريخ الألماني الأليم، عندما كانت الصحافة مجرد أبواق دعائية للحزب النازي.
ولنا في العالم العربي خير تجربة !
لعل قصة “هويته شو” تعود بالقارئ العربي قليلا إلى الوراء ليتذكر برنامجا مشابها حطم كل الأرقام القياسية لنسب المشاهدة. “البرنامج” ـ هذا هو اسم البرنامج الذي أطلقه الإعلامي باسم يوسف على برنامجه السياسي الساخر والذي حاول فيه بالفكاهة والسخرية تسليط الضوء على كثير من القضايا السياسية والاجتماعية في مصر. هذا البرنامج الذي دخل بيوت وقلوب الملايين من العرب عامة والمصريين خاصة كان يخرج من مطب نصبه له من لا يروق لهم هذا النوع من النقد ليدخل في آخر. وبقي على هذا الحال الى ان قامت كل من قناة “إم بي سي مصر” وDWعربية بتبني وبث البرنامج بنسخته الثانية، الا ان ذلك لم يدم طويلا أيضا. فقد توقف البرنامج نهائيا بسبب الضغوط التي مورست على باسم يوسف وخوفه على أمنه الشخصي وأمن أسرته، حسب تعبيره في مؤتمره الصحفي الذي برر فيه قراره بالتوقف عن انتاج البرنامج.
في حوار له مع DWعربية حاول الإعلامي المصري، الدكتور ياسر عبد العزيز، أن يضع قرار المنع لبرنامج “البرنامج” في سياق معين حيث يرى أن “المجتمع المصري في مجموعه العام يريد ويقبل السخرية ويحرض عليها حينما يتعلق الأمر بـ (السخرية) ممن يناصبه العداء أو بـ “الآخر”، أو بمن يريد أن ينتقده أو ينال منه”. أما حينما يتعلق الأمر بالسخرية من الذات ومن الأصدقاء والحلفاء فيرى الخبير المصري أن “المجموع العام في مصر يبدي للأسف حساسية مفرطة في هذا الأمر”، منوها إلى أن التهديدات الإرهابية التي تتعرض لها مصر حالياً وبشكل شبه يومي تزيد من رفض المصريين لأي برامج تسخر ممن يعتبرونهم “رموزاً تقودهم أو تواجه هذه التحديات”.
المنظمات الحقوقية والكثير من الأصوات الإعلامية البارزة كان لها رأيا مخالفا في حينه. ففي تقرير لها نُشر في فبراير/ شباط الماضي أدانت لجنة حماية الصحفيين، وهي منظمة دولية مقرها في نيويورك تعنى بمراقبة أوضاع الصحفيين وحرية الصحافة حول العالم، أدانت تدهور حرية الصحافة في مصر، وما يتعرض له الصحفيون هناك من رقابة وقمع وعنف. وقالت اللجنة في تقريرها: “لم تشهد حرية الصحافة في أي مكان آخر تدهوراً جذرياً قدر ما حصل في مصر عام 2013″، إذ تحول اضطهاد الصحفيين المنتقدين في ولاية الرئيس الإسلامي المعزول محمد مرسي، في منتصف العام، إلى قمع الجيش لوسائل الإعلام المناصرة لمرسي وتدهور عدد من المؤشرات “بما فيها الرقابة وعدد الضحايا” في البلاد.
لسنا في صدد العودة إلى الوراء للحديث عن مسوغات منع برنامج باسم يوسف من عدمها، لكننا نرغب في الإشارة إلى مقارنة محزنه تعبر بكل أسف عن وضع حرية الإعلام في مصر: عاد “هويته شو” ليصول ويجول بسخريته اللاذعة وكاميراته الراصدة في أروقة البرلمان الألماني ليتصيد أخطاء الساسة وهفواتهم ويعدّ عليهم خطواتهم، بينما لا يتجرأ باسم يوسف على الظهور والبوح بكلمة واحدة وإلا فأن القضايا والمحاكم له بالمرصاد. ترى كيف سيكون مصيره لو طلب تصوير إحدى حلقات برنامجه في أروقة مجلس الشعب المصري؟
نقلا عن DW