يوسف الشريف
القارئ في تاريخ مصر الحديث وتحديدًا في الفترة التالية لثورة يوليو 1952، يمكن أن يعتبر أن نكسة يونيو 1967، هو الحدث الأهم على الإطلاق، حيث أدت هذه الهزيمة إلى احتلال العدو الإسرائيلي، لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان.
ولكن إذا حاولنا القراءة أو تتبع العوامل التي دفعتنا كعرب وكمصريين إلى الهزيمة سنجد رؤى مختلفة، بين حديث المثقفين والكتاب، وبين حديث المحبين للرئيس جمال عبد الناصر، هؤلاء من يحاولون دفع وإبعاد أسباب الهزيمة عنه، وبين كارهين لعبد الناصر يحاولون لصق أسباب الهزيمة به، وبين حديث المشايخ وبعض رجال الدين، ووسط كل هذه الأحاديث لا يكاد القارئ لأسباب تلك الهزيمة لا يعلم شيئا عن الحقيقة أو العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة الكارثية.
فماذا كان رأي صناع السينما عن النكسة؟ وعن أسباب الهزيمة؟! وإذا بحثنا في تاريخنا السينمائي عن الأفلام التي حاولت الحديث عن أسباب النكسة، لا عن الفترة الناصرية، وجدنا أن أهم تلك الأفلام هي الأفلام التي أخرجها المخرج الكبير، يوسف شاهين.
والتي بدأت بفيلم الأرض إنتاج 1970، وانتهت بفيلم عودة الابن الضال إنتاج 1976، وإذا تركنا هذه الأفلام، أي أفلام شاهين وجدنا أن هناك فيلم وحيد يكاد يتصل بموضوع النكسة وأسبابها وهو فيلم “ثرثرة فوق النيل” إنتاج 1971، ومن إخراج حسين كمال، ولكننا الآن سنتحدث عن أفلام يوسف شاهين.
“الأرض” وضرورة مواجهة الظلم
في مفتتح فيلم “الأرض” وفي البداية يمكن أن نعتبر من اسم الفيلم أن الفيلم يتحدث عن الأرض سواء أرض الوطن المحتلة، أو أرض العالم الخاص بالفيلم والتي ستحتل أيضًا ولكن من الداخل، في بداية الفيلم نرى الفلاح (محمد أبو سويلم) الذي أدى دوره الفنان محمود المليجي، وهو يجلس على الأرض ويداعبها بحنان، حيث يتحسسها برقة شديدة ثم يقطف زرعة من الأرض ويدنيها من أنفه حيث يشعر بالحنين الجارف ولذة غامضة، وينتهي الفيلم بمشهد لنفس الفلاح وهو يتم سحله على نفس الأرض التي كان يجلس عليها في بداية الفيلم، ونرى الأرض وهي ترتوي وتشرب من دماء هذا الفلاح وبالرغم من التعذيب البشع الذي يتعرض له الفلاح إلا أن تشبثه بالأرض لا يلين، حيث يقبض عليها بكل قوة.
فهل هناك رابط وخط بين بداية الفيلم ونهايته بالتأكيد نعم، فالفيلم في مجمله هو إسقاط صريح وواضح على أهمية التشبث بالأرض وعدم التنازل او التخلي عنها، سواء أرض الوطن، أو الأرض التي يجري عليها أحداث الفيلم، كما أن شاهين حاول توصيل هذه الرسالة في كثير من المشاهد داخل الفيلم، مثل مشهد الفلاح وهو يحدث أبناء بلدته عن أهمية الثورة على الظلم، وهناك مشاهد أخرى تبرز بعض المشكلات المجتمعية التي أدت إلى الهزيمة أو فقدان الأرض، مثل مشهد النزاع القائم بين أهل البلد على الماء، ولكن شاهين أيضًا كما يوضح أسباب الهزيمة والمشكلات الاجتماعية يوضح أيضًا أهمية العلم كحل ومخرج من المأزق وعلاقة رجل الدين كشاهد على الأحداث، فالفيلم يتحدث عن الثورة الواجبة في مجتمعنا، الثورة التي تبدل العقول وتوحدها من أجل هدف واحد هو الخروج من الأزمات.
وقد ساعدت موسيقى علي إسماعيل في توصيل تلك الرسالة، حيث تأخذ نواحي مختلفة من أنين مكتوم للفلاحين (المحكومين) ثم ثورة عظيمة تجعل الموسيقى تصرخ (الأرض لو عطشانة نرويها بدمائنا) ولكن تنتهي الموسيقى بالأنين والوجع. وربما أنين الهزيمة والانكسار.
الاختيار.. ازدواجية الحاكم أم المحكومين؟
ثم ينتقل شاهين إلى مرحلة جديدة وتطور جديد في التعبير عن النكسة وأسبابها في فيلم “الاختيار”، وهو فيلم يبرز ازدواجية النظام، سواء النظام الحاكم، أو النظام العام، حيث هناك عالم ملئ بالقيم والمبادئ وهو عالم المثقفين، وعالم ملئ بالمجون والمتع، هذه أزمة بطل الفيلم (سيد)، اسم بطل الفيلم يمكن أن نعتبره إشارة إلى السيادة ومالكها في البلد، سيد بطل الفيلم يعيش حياتين كل حياة مختلفة عن الحياة الأخرى تمامًا، مما يجعلنا نتساءل هل الازدواجية في عصر ناصر هي من قادتنا إلى الهزيمة؟ حيث نظام يؤمن بالثقافة والفن والتعليم، وفي نفس الوقت لا يؤمن بالحرية. وكذلك بطل الفيلم يؤمن بالثقافة والفن والإبداع والجمال بصفته أديب ولكنه يقتل أخوه الذي يعيش حياة مليئة بكافة أشكال الحرية والمتع، ولكنه بعد أن يفتقد لهذه الحرية يحاول استعادتها ولكن بعد ماذا؟
ولكنك بعد مشاهدتك للفيلم وقراءتك لتاريخ عبد الناصر وتحديدًا بعض الكتب التي تتحدث عن شخصية ناصر بعد النكسة سنعرف أن الهزيمة جعلت ناصر ينظر إلى ضرورة الحرية من منظور جديد ومختلف.
العصفور والحرب على كافة الأصعدة
تطور هذه النظرة ليوسف شاهين مرة أخرى وتأخذ منحى جديد في فيلم “العصفور” إنتاج 1972، حيث يرجع يوسف شاهين أسباب الهزيمة إلى أسباب داخلية متعلقة بالفساد في الأجهزة العامة، وعلاقة السلطة بهذا الفساد، ويأتي الفيلم ليقول إن ما أدى بنا إلى الهزيمة هو الفساد الذي نتسبب فيه كأفراد محكومين قبل الحكام، وبالرغم من ذلك نرى في الفيلم تكاتف وتوحد أبطال الفيلم (المصريين) بعد وقوع النكسة وخطاب عبد الناصر المبكي، لينتهي الفيلم بصرخة بهية التي تجري في الشوارع وتقول (لا أبدًا هنحارب) ولكن هنا يكون مفهوم الحرب لا الحرب العسكرية فقط، بل الحرب بمفهومها الشامل حيث الحرب التي تنبع من داخل الفرد وعلى نفسه، والحرب التي تنبع من الأفراد كجموع على الفساد والظلم الذي يؤدي إلى الهزيمة أو التأخر.
عودة الابن الضال.. الرهان على المستقبل
أما في فيلم “عودة الابن الضال” أنت هنا أمام مرحلة اكتمال وتبلور نظرة شاهين عن النكسة وأسبابها ودوافعها، حيث يضع شاهين ثلاث شخصيات هم إسقاط على ثلاث أجيال مختلفة، الجد وهو الشخص الذي عاش حياته في عصور الاحتلال، والابن الشخص الذي عاش في زمن ناصر وسمع حديثه وآمن به حيث صعد معه إلى الأحلام النهضوية العظيمة ليلمسا سابع سماء، ولكن فجأة تنهدم تلك العمائر المشيدة على أساس خاطئ على يافوخ بطل الفيلم، وهناك جيل ثالث وهو الحفيد الجيل الذي عبر به يوسف شاهين عن المستقبل الذي كان يراه سعيدًا.
ومن خلال الفيلم ستستطيع التعرف على كل الأسباب التي قادتنا إلى الهزيمة أو إلى التأخر، عن طريق الربط بين شخصية فاطمة، ومصر، فاطمة تلك المغتصبة المنهوبة التي انتظرت حبيبها الذي يخلصها من هذه الأزمة ولكن حبيبها مشغول في أزمته الخاصة التي هي أزمة ناصر، شخص يملك أحلام عظيمة لا يستطيع تحقيقها، حيث الشاب (علي) الذي عاش وظهر في الفيلم كإشارة إلى عبد الناصر، وينتهي الفيلم بنهاية شكسبيرية هدفها التخلص من كل الماضي بكل ما فيه من فساد ومن أحلام عبد الناصر، وأفراح وأشباح، وينصح الفيلم الأجيال الجديدة عن طريق كلمات صلاح جاهين بترك الماضي والتطلع فقط إلى المستقبل:
نودع الماضي .. و حلمه الكبير
نودع الأفراح .. نودع الأشباح
راح اللي راح ماعادش فاضل كتير
إيه العمل في الوقت ده يا صديق
غير إننا عند افتراق الطريق
نبص قدامنا .. على شمس أحلامنا
نلقاها بتشق السحاب الغميق