من ضمن مزايا تمتع الشخص بعدد لا بأس به من الأصدقاء هو أنهم سيكونون حاضرين وبكل قوة وتميز عند وفاته، سيكون نعيه بسرد أكثر المواقف الإنسانية بينه وبينهم، مكتوباً وموثقاً على صفحات التواصل الاجتماعي، يعاد في ذكراه ما حيت تلك المواقع، سيكون الحضور كثيفاً في صلاة الجنازة، وستقام صلاة الغائب في أكثر من مكان، وسيعم الدعاء الأجواء بمجرد إعلان الوفاة ..
ما الذي ممكن أن يحدث ليختفي وبمنتهى السرعة من لم يعيشوا بعد ؟!!
هل من الممكن أن يحس الإنسان بقرب أجله، أم أن جرعات الحزن والهموم وسواد الدنيا سبباً في قِصَر العمر وموت الفجأة ؟!
وفاة الصحفي براء أشرف المفاجئة وقيام أصحابه وزملائه ومعارفه بنعيه عن طريق ذكر مآثره، أو نشر صور تجمعهم وإياه قبل وفاته؛ لفتت نظري لكارثة ما بعد وفاتي، أني لا أمتلك مثل تلك الكوكبة التي ستجند صفحاتها للحديث عني بعد الموت !! معقول هل سأموت هكذا في صمت ؟! اكتشفت أني وطول عمري الذي تجاوز عمر براء بخمس سنوات لم أسْعَ يوماً لتكوين الصداقات ! لقد كنت أكتفي بصديقتين أو ثلاث بالكاد، فقط صديقتان أيام الابتدائي أتذكر اسميهما الأول فقط، ولاء وشيماء، وزميلتين لم يرتقيا حينها للإحساس بقرب الأصدقاء، كنت أتقاسم معهما الطريق للبيت بعد المدرسة، والعجيب أن هاتين أتذكر اسمهما ثلاثياً ! إيمان محمد الكرداوي، وتغريد عبد العزيز الدهري، عسى أن يقرءا ذلك المقال فيكونا موجودتين لتقديم النعي يوماً ما، تحياتي لكما ..
ثم غربتنا البلاد، فسافرت مع الوالدين للسعودية ولم أعد أعلم عن أربعتهم شيئاً، أتممت سني دراستي وأنا لا أزال على نفس الطبع، لا أصدقاء يتعدون أصابع اليد الواحدة، حتى أُخِذَ انطباع عني بالتكبر لعدم اختلاطي بالباقين، فقط كانوا أميرة ومريم وسمر، صديقاتي في المرحلتين الإعدادية والثانوية، أدعوكم أنتم الآخرين بالوجود لنعيي يوماً ما، أملي الأخير فيكم، تلك وصية، اذكروا أشيائي الطيبة وإن لم تسعفكم الذاكرة فابحثوا في صندوق الذكريات، لابد وأنه يحمل عني كما يحمل صندوقي منكم، وإن لم تجدوا فاقرؤوا على روحي الفاتحة، وابلغوني السلام لعله يصل إليَّ فيؤنس وحشتي، فلست متأكدة أين وكيف سأكون وحدي !! أنا التي لم أبحث عن الوحدة بقدر بحثي عن الاكتفاء بكم، وإن بحثت عن الهدوء من بعد ما فرقتنا الدروب، ولكني وجدته شعوراً بالوحشة !
كيف سأموت الآن وليس لي تلك الصداقات ؟! لم يكن هناك الكثير للعيادة في مرضي أو مباركة فرحي أو مواساة حزني حتى أعبأ اليوم بعدم تواجدهم في نعيي، كيف لم أنتبه قبل ذلك ؟!!
يُلفت نظري جداً تصرفات الكثيرين، يغتابون بعضهم البعض، وإذا التقوا اغتالوا بعضهم حباً وأشواقاً وأحضاناً واجتراراً لذكريات كثيرة جميلة مزيفة، وإذا تفرقوا عادوا لنبذ وذم بعضهم بعضاً من جديد !! لا تجمعهم المناسبات السعيدة بقدر ما تجمعهم الجنائز !! لم يهتدِ أحدهم إلى أن الحياة قصيرة ولا تحتاج كل تلك الصراعات، لا يتذكر أحد أن كلهم إلى فناء، ولا يهتم فيهم أحد إلى تطهير قلبه لعل الفراق غداً ! لم يعِ أحد أن من يصعِّر له خده اليوم ربما سيحضر جنازته بالغد، فلن يدعوَ له بقلب محب هذا إن ردع نفسه عن الدعاء عليه بالجحيم !!
وعلى النقيض وفجأة تجد سيرة أحد الأموات برزت للمجلس ليتردد الدعاء له بالرحمة على ألسن الجميع، ربما كانت إشارة برضا الله على ذلك المتوفي أن سخَّر الجمع أن يشملوه بالترحم، أو أن تلك الروح الطاهرة تحوم بالمكان لتجمع صلوات وتسليمات وبركات ترتقي بها درجات، عند رب السموات، وتعود لبرزخ جميل تحيا فيه حتى لقاء !
لا أخشى موتاً قريباً أو سريعاً، مؤكدٌ أن الله سيرحمني لأني على يقين من رحمة الله، ومؤكد أن الله سيلهم أهلي الصبر والسلوان، وبعد حين النسيان، كل ما أفكر فيه الآن : كيف سيذكرني أهلي وأصدقائي ومعارفي، كيف سيقدمون النعي، وكيف ستصلني مشاعرهم تلك ؟! .. ولكن هل طبيعي أصلاً أن أهتم الآن بكيفية تَذَكُّرِهم لي، وأنا لا أعلم هل سيمنحني موقفي ومكاني بعد الموت رفاهية أن يكون هذا ضمن اهتماماتي ؟! أعتقد أن كل روح تنتظر دعاءاً لها بالرحمة من أحدهم، أو التصدق عن صاحبها لعل بهذا التقرب يكون استكمالاً لعملٍ انقطع من الدنيا، إذاً من حقي أن أهتم الآن وأضمن أن هذا سيحدث بالفعل بعد وفاتي، إذاً أسألكم نعياً يليق بروحي الطاهرة المطمئنة الراضية المرضية بإذن الله ..
ما أخشاه أكثر كيف سيذكرني زوجي وهل سيستمر الإخلاص من بعدي لذكراي ؟ كيف سيذكرني أولادي، وكل ما أخشاه أن يشوب دعاءهم لي بالرحمة غصة في نفوسهم من قسوة وجدوها مني بغية اشتداد عودهم، ويكونون كما يجب أن يكونوا، كيف سيذكرني أقاربي وأنا التي لم أداهن أو أنافق يوماً، كيف سيذكرني أصدقائي وأنا لا أمتلك الكثير منهم، كيف سيذكرني جيراني وأنا التي ليس لها علاقة بالجيران، كيف سيذكرني مدرسيني وقد مات أغلبهم على الأغلب ؟!!
يُحزنني أن ينتهي بي الوضع صورة في برواز لا يتذكره أحد إلا ليزيل من عليه الغبار، يحزنني ألَّا يبكيني أحد إلا إذا وقف أمام قبري كما أفعل بقبري جديّ، يحزنني أن يتم التخلص من مقتنياتي كتبرع للمحتاجين، كما يحزنني الاحتفاظ بها ومغلقٌ عليها الخزائن يحزنني أن يُذكر اسمي دون أن يتبعه ” الله يرحمها ” كما أتذكر أبي وكأنَّه لازال موجوداً بالدنيا !! فكَّرت جديَّاً أن أهب أعضائي بعد الوفاة تبرعاً لمحتاجيها، ربما سيكون هنا النعي بطريقة عملية، ستستمر حياتي بهذه الطريقة بعد مماتي، فعيني سيرى بها أحدهم، وقلبي سينبض في صدر من يريد استكمال الحياة، وكبدي وكليتاي سيساعدان إنساناً أن يتحمل ما توقفت عن الشعور به !
أتمنى لو أنني أعرف هل سأشتاق في مكاني بعد الرحيل لأحبتي في الدنيا كما سيشتاقون لي ؟! قد يخبرنا الراحلون بذلك ولكن للأسف لم يأتني أحد منهم في المنام ليقل لي هل هذا متاح أم لا، لم يأتني أحدٌ حتى الآن ويقل لي : ” وحشتيني ” !! إذاً على الأغلب هم بمكان لا حاجة بهم للاشتياق بشيءٍ ما في الدنيا مهما بلغ قدره، وسأكون على شاكلتهم يوماً ما أنا الأخرى ولن أشتاق إلى أحد ..
لا أخشى أن أترك من خلفي ذرية ضعافا، ولا أخشى الموت حقاً إلا أن يكون الله غير راضٍ عني، وهكذا كنت أدعوه دوماً : ” اللهم لا تَتَوَفَّنِ إلا وأنت راضٍ عني “، في الوقت الذي كنت أتمنى فيه الرضا السريع، إلَّا أني كنت أخشى أن طول العمر معناه سخط الله !!
.