عبد الرحمن جاسم
قبل أيام، مرّت ذكرى رحيل كاتب درامي لم يكن عادياً. ليس مجرّد راوٍ للتاريخ، بل مؤرخ روى تاريخ مصر من أصغر عامل إلى أكبر باشا، وقارب جميع طبقات المجتمع ونقل نبض الحواري الشعبية وشخوصها من دون أن ينسى قصص الحب والصراعات التي لا نهاية لها.
في الحديث عن الدراما العربية، لا يمكن إغفال دور أسامة أنور عكاشة (27 يوليو 1941 ـــ 28 مايو 2010) بصفته أحد أهم الشخصيات التي أثّرت ولا تزال في تكوين «الروح» المعنوية لهذه الدراما. يتحدّث عالم النفس الأميركي إميل ثورندايك بأنَّ هناك «حقلاً معرفياً/ نفسياً» يتكوّن أساساً من خلال تراكم المعرفة، فيشكّل «طباعاً» جامعة وثقافة تتشارك بها مجموعة من الناس في إطار محدد أو «شعوبٍ في إطار لغةٍ مشتركة».
من هنا، فإن الدراما العربية متأثرة حكماً بما قام به أسامة أنور عكاشة في صناعته لمسلسلات أثرت كثيراً في الواقع الدراما مثل «زيزينيا» (1997 ـــ إخراج جمال عبد الحميد)، و«ليالي الحلمية» (الجزء الأوّل 1987 ــــ إخراج اسماعيل عبد الحافظ)، و«الشهد والدموع» (1983ــــ إخراج اسماعيل عبد الحافظ)، و«أرابيسك» (1994ــــ إخراج جمال عبد الحميد)، و«النوّه» (1991 ــــ إخراج محمد فاضل) وسواها. ربما أحد أهم ما قدّمه عكاشة للدراما، هو أنّه أعطى الشارع حقّه، فيما ركّز بناء «الشخصية القاعدية» الخاصة به على شخصيات «واقعية» إما استقاها من الواقع المباشر، وأضاف عليها كثيراً من خياله، أو شخصيات اخترعها بكليتها. الأمر المشترك بين جميع شخصياته القاعدية/ الرئيسية هو ارتباطها بالخير بشكلٍ كبير. وحدها شخصية «أبو العلا البشري» (من مسلسلي «رحلة أبو العلا البشري»/ 1986 و«أبو العلا البشري»/1990 ـ 1996) كانت أقرب إلى الخير المطلق، وهو ما عاد وابتعد عنها عكاشة في غالبية مسلسلاته، وإن استقى منها الكثير وأضافه إلى شخصياته الأخرى.
ولد عكاشة، في مدينة طنطا، لعلّ هذا ما أعطاه عشق المدن بصورتها الأصلية، وإن ظلت الإسكندرية الساحلية مدينته الأثيرة، التي أحبها وكتب فيها معظم أعماله المهمة. حتى إنه أعطى مناطقها في مسلسله المهم «زيزينيا» روحاً جديدة. أحب عكاشة مصر كثيراً، واهتم بتفاصيلها وتفاصيل حياة مواطنيها بشكلٍ مدهش. لم تخرج شخصياته لا القاعدية ولا العادية عن اليومي والمعاش، حتى إنه لا يمكن متابعة أي من أعماله من دون التنبه إلى أنَّ هذه الشخصيات موجودة فعلياً في حياتنا اليومية وتفاصيلها هي ذاتها تفاصيلنا.
خريج كلية الآداب في «جامعة عين شمس» عام 1962، أفاد من عمله كإختصاصي اجتماعي ليس فقط ليدرس حالات الناس، بل ليغوص في الحالة الإنسانية، ويقرأ ما خلف المباشر المعاش. لذلك، كان طبيعياً أن يقدّم استقالته في عام 1982 متفرغاً للكتابة. هو بدأ باكراً بعض الشيء مع السهرة التلفزيونية «الإنسان والجبل» (1969)؛ لكنه عرف الشهرة والانطلاقة الحقيقية مع مسلسل «الشهد والدموع» (1983). يومها، تعاون للمرة الأولى مع اسماعيل عبد الحافظ؛ المخرج الذي سيصنع معه أعمالاً ستخلّدها الذاكرة طويلاً. كانت الحكاية بسيطة: إنها حكاية شوقي (محمود الجندي) وحافظ (يوسف شعبان) ابنَي الحاج رضوان (حمدي غيث) اللذان يمثلان طرفي النقيض في المجتمع. بحسب الظاهر، فإنه الصراع بين «المجتهد النشيط» (حافظ) و«الفاسد المستهتر» (شوقي). لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير: فحافظ ليس كما يبدو عليه، إنه ضعيف الشخصية أمام والده وزوجته، وشوقي ليس مستهتراً، إنما anti-hero.
هذا المسلسل اختصر ما يريد عكاشة تقديمه. ليس لدى عكاشة أشرار بالمطلق، ولا أخيار بالمطلق. لم تكن تلك الفكرة بـ «مباشرتها» وحدها، ما ميّز عمل عكاشة، بل أيضاً حرفة «التفاصيل» الكثيرة والدقيقة التي اهتم بها: من حياة المجتمع المصري اليومية، إلى الملبس والمشرب والمأكل؛ إلى المقاهي و«قعدة الشيشة» وحتى «الحشيشة». لقد كان الكاتب المصري يحفظ ويخزّن الحواري والأماكن الشعبية بشكلٍ يشابه ما فعله كتّاب مصر الكبار أمثال نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف القعيد وتوفيق الحكيم. لقد كان عكاشة أميناً إلى هذا الحد في حفظ الحارة المصرية درامياً؛ هو لم يحفظها فحسب، بل آمن بها، وأكد على أهميتها في خلق جيلٍ مصريٍ جديد موسوم بالأخلاقية كما الإنتاجية العالية.
في «ضمير أبلة حكمت» (1991 ــ إخراج إنعام محمد علي) وهو بالمناسبة المسلسل الأخير للنجمة المصرية الراحلة فاتن حمامة، قدّم مدرسةً تمثّل ذروة الأخلاق، تخوض صراعاً ظاهراً بين الخير والشر، لكنها في الوقت عينه تقاتل للحفاظ على روحها من الضياع. الحبيب القديم العائد بعد سنوات، في مواجهة الظروف والمال والصراعات الجانبية. إنها ثيمة من ثيماته الأصلية: ألا يخسر الخير -كما البطل- أمام الشر «المغري» الذي يختفي خلف أنوارٍ ساطعة ومكاسب كثيرة. في الوقت عينه، فـ «البطل» هو أقرب إلى «الكائن الخيالي»، والبطلة «أبلة حكمت» تبدو كما لو أنها خارجة من قصص الأساطير: أخلاقية إلى درجةٍ لا توصف، قانونية، وفوق كل هذا لا تريد «التغيّر».
في «الراية البيضا» (1988 ــــ إخراج محمد فاضل)، كان المتابعون أمام ثيمةٍ مختلفة. لقد خلق المؤلف العاشق للإسكندرية، «شريراً» خاصاً ومختلفاً: «فضة المعداوي» التي لعبت دورها بمهارة الراحلة سناء جميل. السيدة الجاهلة ذات الأموال الهائلة، التي أصبحت تمتلك كل شيء، تريد –في قصة العمل- أن تحصل على «فيلا» يمتلكها سفير سابق يدعى مفيد أبو الغار. يمثّل أبو الغار، المثقف، الجميل الراقي، في مواجهة «أثرياء الحداثة» الذين أفرزهم تغيّر المجتمعات. يخوض «أبو الغار» الصراع بكل أخلاقه في مواجهة مال ونفوذ وسطوة المعلّمة «فضة». هل كان عكاشة يريد تعرية المجتمع وأثريائه الجدد الذين كرههم بشدة؟ في «أرابيسك»، كان أسامة قد نضج أكثر. لذلك أراد تقديم بطل مختلف مركّب مصنوع بحرفةٍ أقرب إلى أبطال الروايات العظيمة مثل «مرتفعات وذيرينغ»، لإيميلي برونتي و«جود المجهول» لتوماس هاردي: جاء «حسن أرابيسك» (صلاح السعدني) بمثابة التعريف للبطل المضاد (anti-hero).
لقد أراد عكاشة استثمار شخصية «شوقي» من «الشهد والدموع»، فوسّع الشخصية وأعطاها دوراً وأهميةً ووظيفةً. لقد جعله فناناً ينحت «الأرابيسك» الخشبي؛ وأعطاه، في الوقت نفسه، سلوكاً «صعلوكياً» يعاقر الحشيش، لا يُؤتمن على شيء (ترك ابنه لطليقته)، من دون أي منطق سلوكي. مع ذلك، كان حسن أرابيسك أخلاقياً، مهذباً، ويمتلك كل صفات «أبناء البلد» التقليدية. هذا التناقض، جعل هذه الشخصية أشبه بكائن أسطوري، تحبه وتكرهه في آن، لكنك ترغب بكل قوتك –كمشاهد- في متابعته ومعرفة قصته.
عملاه الرائدان «ليالي الحلمية» و«زيزينيا» كانا بمثابة «الختم» الذي دُمغ به بشكلٍ نهائي الدراما المصرية. «ليالي الحلمية»، ذو الأجزاء الخمسة المتميزة، كان بمثابة رواية لتاريخ مصر، من أيام «الملك فاروق» وصولاً إلى العصر الحديث الذي عايشه المسلسل. مارس عكاشة هوايته الكبرى في رواية التاريخ كما يراه ويعرفه ويفهمه. أراد أن يروي من «الخاص» إلى «العام»، إضافة إلى تخليق قصص متوازية. فالقصة المركّزة بين «الحلمية» و«غاردن سيتي»، تعرض بشكل متكامل، الصراع الأبدي بين الفيلات وباشاواتها والحواري والمناطق الشعبية وقبضاياتها؛ حتى سكان الأرياف وصراع أهالي الصعيد والبندر. يبدأ الصراع بين الباشا «سليم البدري» (يحيى الفخراني) والعمدة «سليمان غانم» (صلاح السعدني). سرعان ما يقرر العمدة غانم أن يترك قريته ويسكن القاهرة؛ ويدخل في صراعٍ محموم مع البدري.
ذلك الصراع الذي كان بمثابة أخذٍ ورد بين الشخصيتين، لم ينحصر بهما، بل شمل «نازك السلحدار» (صفية العمري) زوجة سليم البدري التي سرعان ما أصبحت إحدى أهم الشخصيات في العمل، ليس فقط حين تزوّجت «العمدة» سليمان غانم انتقاماً من زوجها الذي اكتشفت زواجه الثاني وإنجابه لطفل. الصراع الذي تحوّل مناطقياً لاحقاً، أخذ منحى شديد التعقيد، حين أنجبت «نازك» ابنةً (آثار الحكيم ولاحقاً إلهام شاهين في الجزءين الرابع والخامس) من سليمان غانم. وللمفارقة أحبّها «علي» (ممدوح عبد العليم) ابن زوجها السابق سليم البدري من زوجته الثانية؛ ليستعر الصراع بين العمدة والباشا أكثر. مع تقادم السنين، بقي الصراع مستمراً بين الخصمين، إلا أن الأمور تأثرت بالأوضاع السياسية: فإبنة الباشا «نجاة» (دلال عبد العزيز) الذي يعمل في الأمن السياسي أيام الملك فاروق، تعشق «طه السماحي» (عبد العزيز مخيون) أحد أبطال الثورة، لتتزوجه وتهرب معه وتنجب منه؛ ليستشهد طه لاحقاً. تفاصيلٌ كثيرةٌ تجعل «ليالي الحلمية» أشبه بالأيقونة المزخرفة على طريقة اللوحات في القصور العباسية: أحجارٌ متناهية الصغر ترسم صورةً كبيرة شديدة الجمال: لقد أجاد عكاشة رسم «النانو» بالكتابة.
في عمله الرائد الآخر «زيزينيا» الذي قارب فيه الإسكندرية، لم يكن الصراع هذه المرّة صراعاً بالمعنى المباشر: إنه النقاش/ التناقض بين الجاليات الجريكية (اليونانية لكن تلفظ محلياً في مصر هكذا)/ الإيطالية وأهل الإسكندرية المصريين العرب.
في مسلسله الأخير «المصراوية»، أراد أن يروي حكاية مصر ككلّ هذه المرّة، يتمثّل الصراع في «بشر عامر عبد الظاهر» (يحيى الفخراني) أو «بوتشي» كما يسميه أهله الطليان: إنه «مفتاح اللغز» كما تقول مقدمة المسلسل. «بشر» هو ابن الحاج عامر عبد الظاهر الذي تزوّج شقيقة عميد «الطلاينة» في مصر. «بشر» كان مزيجاً مختلفاً/ غير معتاد. إنه ليس إيطالياً بالمطلق كما أنّه ليس مصرياً بشكلٍ كامل. إنه ابن «الجريكية» بالنسبة إلى إخوته/ أشقائه المصريين، و«ابن المصري» بالنسبة إلى أهله الطلاينة. أيٌ من الاثنين هو «بشر»؟ ذلك هو السؤال الأهم.
في الوقت عينه، لم ينس عكاشة أن يحاكي تاريخ تلك المرحلة، فحكى عن «الثوار»، مقدّماً شخصية «الطوبجي» المقاوم الفذ الصامت، و«فتحية مرسال» صاحبة «المقهى» وقائدة المقاومة على طريقتها، هي التي «قتل» زوجها بين يديها وهو يُقاوم البريطانيين. إنه عالمٌ شديد الدهشة وصراعٌ لا يعرف إن كان فعلاً صراعاً بين حضارات مختلفة، أو أنّه ليس صراعاً البتة، بل مجرّد قصةٍ أثيرية. أما في مسلسله الأخير «المصراوية» (2007 ـــــ إخراج اسماعيل عبد الحافظ) أراد عكاشة من خلال جزءي العمل أن يروي حكاية مصر ككل، لا مجرّد حكاية تجمع بين العمدة «فتح الله» (ممدوح عبد العليم) وزوجته التركية ابنة الباشا (غادة عادل). وافت المنية عكاشة قبل أن يكمل الجزء الثالث الذي كان ينوي أن يروي فيه التاريخ المعاصر، كما أن يختم به أعماله.
باختصار، ليس أسامة أنور عكاشة كاتباً درامياً عادياً، هو أكثر حتى من مجرّد راوٍ للتاريخ، هو أقرب إلى مؤرخ شبيه بهيرودوتس المؤرخ الإغريقي الشهير: إنه يروي تاريخ مصر، من أصغر عامل إلى أكبر باشا. يقارب جميع طبقات المجتمع من دون أن ينسى قصص الحب والصراعات التي لا نهاية لها. خسرت مصر والدراما العربية كثيراً برحيل عكاشة؛ فأقل ما يقال بأنه لن يتكرر، وإن حدث الأمر ـــ وذلك مستبعد ــــ فإنه لن يمتلك ذات البعد/ العمق والمهارة.