“حين أرى شخصاً ما، أتمنى ألّا أشعر بالرفعة أبداً. من صميم قلبي أتمنى أن أكون قادراً حقاً على تقدير الشخص الآخر الماثل أمامي”.
تلك كلمات معلّم من التِّبت نقلاً عن “كتاب البهجة”، الترجمة العربية لكتاب The Book of Joy الصادرة عن دار الخيال ببيروت سنة 2018، والتي يجيء على غلافها الأخير: “سافر رئيس الأساقفة (ديزموند) توتو في شهر نيسان من عام 2015 إلى منزل الدالاي لاما في دارامسالا، الهند، من أجل الاحتفال بعيد ميلاد قداسته الثمانين، وخلق ما كانا يأملان في أن يكون هبة إلى الآخرين. لقد نظروا إلى الخلف إلى حياتهما الطويلة من أجل الإجابة على سؤال واحد ملحّ: كيف نستطيع إيجاد البهجة في وجه معاناة الحياة المحتومة؟ قاما بتداول القصص الحميمة، أغاظا بعضهما على نحو متواصل، وشاركا تمارينهما الروحية. مع حلول نهاية أسبوع مليء بالضحك وقد تخللته الدموع، حدّق هذان البطلان العالميان في هاوية ويأس زماننا وأظهرا كيفية عيش حياة مفعمة بالبهجة”.
ذلك إذن ملخص مفاد الكتاب الذي يزداد وضوحاً في المقدمة بعنوان “الدعوة إلى البهجة” على لسان تينزن غياتسو (الدالاي لاما) وديزموند توتو (رئيس أساقفة جنوب أفريقيا الفخري)، حيث يقولان: “لقد وافق شريكنا في التأليف دوغلاس أبرامز، بكل لطف على مساعدتنا في هذا المشروع، وقام بإجراء مقابلات معنا على مدى الأسبوع الذي قضيناه في دارامسالا. طلبنا منه مزج أصواتنا معاً، وأن يقدّم صوته بوصفه الراوي الخاص بنا بحيث نتمكّن ليس فقط من مشاركة وجهات نظرنا وخبراتنا، بل وكذلك ما توصّل إليه العلماء والأشخاص الآخرون بوصفه نبع البهجة المتدفّق”.
على أهمية ذلك الأمر، فإن ما يعنينا في هذا المقام ليس البحث عن البهجة أو السكينة، وإنما سؤال آخر ليس بعيداً تماماً: إذا كان البعض يظن أن الشهرة جالبة للسعادة فماذا عن علاقة الشهرة بالطمأنينة؟ هل يهتمّ الباحثون عن الطمأنينة تحديداً بالشهرة؟
تحت عنوان “التواضع: حاولتُ أن أبدو متواضعاً وبسيطاً” يقول رئيس الأساقفة: “يتوقع الناس أن يكون لديك حضور، وأن تتصرف على نحو لائق. ألا تأخذ القلنسوة خاصتي وتضعها على رأسك. أقصد، لا يتوقع الناس شيئاً كهذا من قدّيس. لكن إن كنت تظن أنّك مجرّد شخص عادي، كائن بشري من أصل سبعة مليارات، عندها ترى أنه ما من سبب لتتفاجأ أو لتشعر أنه عليك أن تكون مميزاً. لذا في أي وقت أكون فيه مع ملكات أو ملوك أو رؤساء أو رؤساء وزراء أو متسولين، أتذكر دائماً أننا جميعاً سواسية”. هنا يسأله دوغلاس أبرامز: “إذاً حين يعاملك الناس بوصفك “قداسته”، مع تبجيل كهذا… هل يصعّب عليك هذا المحافظة على تواضعك؟”. يرد رئيس الأساقفة: “كلا، لا أهتم بالشكليات أو المراسم. إنها زائفة. حقاً. أيها الأسقف، لقد ولدتَ بالطريقة البشرية نفسها. ما من طريقة مميزة لولادة الأساقفة. أظن أيضاً، عندما تحين النهاية، ستموت أيضاً ككائن بشري طبيعي”.
ولكن التواضع لا يعني الزهد في الشهرة، وإن يكن تحدّي التواضع الأصيل مع علَمين روحيين بارزين كالدالاي لاما ورئيس الأساقفة يبلغ مبلغاً عميقاً بما يجعل أية استجابة بأي قدر من الإذعان لأيٍ إغواء من قِبل الشهرة أمراً من شأنه أن ينسف أي ادّعاء للتواضع.
يوجّه رئيس الأساقفة حديثه إلى الدالاي لاما: “ولكن حين يأتي الناس للتواجد في حضرتك، فإنهم لا يأتون كما يأتون للتواجد في حضرتي”. يردّ الدالاي لاما: “يعود ذلك كما أظن إلى كوني قد جئت من بلاد غامضة، التبت. بعض الناس يطلقون على التبت اسم “شانغري لا”، ولذا من الممكن ربما أن يُعدّ شخص أمضى العديد من السنوات في قصر بوتالا غامضاً نوعاً ما. ثم بعدها أظن أنك ترى هذه الأيام هؤلاء الصينيين المتشددين وهم ينتقدونني دائماً، وذلك يزيد من الشعبية. إذاً هذه…”. عند هذا الموضوع يعلق دوغلاس أبرامز: “كان الدالاي لاما يضحك على غموضه وشهرته العالمية”.
من الواضح أن كلا رئيس الأساقفة والدالاي لاما (كما يبدوان في الكتاب ومن خلال متابعة ما يتاح من سيرتهما بصفة عامة) يتعاملان مع التواضع بقدر عميق من الصدق والأصالة. ولكن السؤال لا يزال قائماً: ألا يستمتع الرجلان بالأضواء والشهرة؟
من الصعب الإجابة على السؤال الأخير هذا، ولكن الأهم ملاحظة أنه في حال كان أيٌّ منهما أو كلاهما يستمتع بالشهرة فإن ذلك في ذاته ليس جريمة إلّا إذا جنى على تواضعهما بأي قدر أو زعزع قدراً من سكينتهما. أمّا التواضع فهو تحدّ مستمر وتمرين متواصل، ويبدو أن الرجلين لا يجدان مشقة تُذكر إزاء تحدي التواضع وما يقتضيه من تمارين مستمرة. وأمّا السكينة فالأرجح أن الشهرة تجني عليها بدرجة أو أخرى مهما تكن جودة وحدّة التمارين التي يمكن أن يمارسها زاهد لمواجهة تحدّي الحفاظ عليها (السكينة) تحت أضواء الشهرة.
تينزن غياتسو (الدلاي لاما) وديزموند توتو (رئيس أساقفة جنوب أفريقيا الفخري) مجرد مثالين في هذا السياق، فالتاريخ يعجّ بالزاهدين من كل عرق ودين ممن اكتسبوا شهرة عظيمة. بعضهم لم يعمد إلى الشهرة وإنما ساقتها إليه جحافل مريديه، وبعضهم سعى إليها بدرجة أو بأخرى. وإذا كان ممكناً وصف الصنف الثاني بأنه لا يستحق لقب زاهد باعتباره – بقدر أو بآخر – طلب الشهرة التي هي واحدة من ملذات الحياة المحفوفة بالمزالق، فإن امتحان الصنف الأول إزاء الشهرة التي ساقها إليه الآخرون ليس هيناً بحال، فالسؤال العظيم لا يزال قائماً: هل من المفترض أن يركل الزاهد العظيم الشهرة بعيداً عنه وقد آلت إليه دون أن ينشدها؟ أم لا حرج عليه من أن يذعن لها ويتلذّذ تبعاً لذلك بمذاقها الرائع وهو يواصل البقاء تحت الأضواء بذريعة واجب نشر رسالة سامية من قبيل ما؟
للتواصل مع الكاتب: [email protected]