إذا كانت السمعة الجيدة لدى الأفراد تعني أن يتمتع الواحد بانطباعات طيبة في محيط من يعرفونه، فإن سمعة الشركات والمؤسسات لا تقتصر على انطباع طيب فحسب من قبل المتعاملين بل تتعدّى ذلك إلى أهمية أن يطبّق صيت المؤسسة الآفاق. ما يعني أن السمعة الجيّدة لدى المؤسسات – لا سيما الكبرى – مرتبطة بالشهرة ارتباطاً عظيماً، فلن يفيد مؤسسة ذات رأس مال ضخم أن يُسأل الناس عنها فيحكّون رؤوسهم قبل أن يتذكّروا أنهم لم يروا منها أمراً مشيناً. الشركات العملاقة – أو تلك التي تطمح إلى أن تكون عملاقة – لن ترضيها السمعة الحسنة إلا إذا بلغت مبلغ الشهرة بحيث يستقرّ اسم الشركة وشعارها راسخين في وجدان الجماهير.
في كتاب “المال والشهرة: كيف تبني الشركات الناجحة سمعة رابحة”، النسخة العربية من إصدار الدار العربية للعلوم ببيروت ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم سنة 2009 ترجمةً للأصل الإنجليزي Fame and Fortune: How Successful Companies Build Winning Reputations ، يقول المؤلفان تشارلز ج. فومبرون Charles J. Fombrun وسيز ب. م. فان ريل Cees B. M. Van Riel : “اختر شركة معروفة تقدّرها ورسّخها في ذهنك. والآن حاول أن تعلل لماذا سَمّيتَ هذه الشركة بالتحديد. إذا كنت مثل معظم الأشخاص الذين طرحنا هذا السؤال عليهم إنْ فردياً أو ضمن مجموعات بحث في ستة بلدان، سيقع تعليلك ضمن إحدى الفئات الست التالية…”.
يشرع بعدها المؤلفان في بيات تلك الفئات الست وصولاً إلى ما أسمياه “حاصل السمعة”، وهو “أداة معايرة تستخدم لحساب نتيجة السمعة الإجمالية” التي هي “مجموع الأجوبة التي يعطيها الناس حين يطلب منهم تصنيف شركة بالاستناد إلى 20 سؤالاً”. الإجابة على كل سؤال تتراوح بين 1 (سيء) و7 (جيد جداً). أما العشرون سؤالاً فموزعة على الفئات الست المشار إليها في الفقرة السابقة وهي: “الجاذبية العاطفية، المنتجات والخدمات، الأداء المالي، البصيرة والقيادة، بيئة العمل، وأخيراً المسؤولية الاجتماعية”.
الفئات أو العوامل الستة التي يعتمد عليها المؤلفان في تقييم سمعة أية مؤسسة تشي بالطبيعة الخاصة والمعقدة التي تجني عبرها المؤسسة شهرتها قياساً إلى ما يمكن أن يمنح أيّاً من الأفراد الشهرة على أي صعيد. تحديداً هناك فارقان رئيسان: أولاً، أنه مع الأفراد يكفي عامل أو سبب واحد لجعل الفرد مشهوراً في حين أن سمعة/شهرة المؤسسة تعتمد على بضعة عوامل متداخلة (ليست بالضرورة العوامل الستة المشار إليها في الكتاب). ثانياً، الشهرة لدى الأفراد تعني الذيوع بصرف النظر عن طبيعة السمعة حسنة أم سيئة، فسِجلّ التاريخ يضم سفاحين ومجرمي حرب ومارقين على الأعراف في مختلف المجتمعات على مرّ الزمان، أمّا المؤسسات فلا مناص من أن تكون سمعتها/شهرتها حسنة حتى تغدو بارزة وتحافظ على بروزها.
الحقيقة – بصفة عامة – ليست بعيدة المنال فحسب وإنما مراوغة أيضاً، وربما ابتداءً. وعليه فإن تحدّي السمعة الحسنة على صعيد تحقيق الشهرة لدى المؤسسات لا يكمن في “حقيقة” سمعة المؤسسة وإنما فيما تنجح المؤسسة في ترويجه عن نفسها لدى الناس، فما يستقر في أذهان الجماهير آخر المطاف هو ما تنبني عليه حصة المؤسسة من الشهرة بغض البصر عمّا يحدث وراء الكواليس وبصرف النظر عن نوايا المؤسسة الخالصة، لا سيما في ظلال تأثير عوامل من قبيل “الجاذبية العاطفية” و”المسؤولية الاجتماعية”.
المؤسسات يملكها أفراد، وعندما تكون المؤسسات حكومية في دولة بعينها أو رسمية ضمن نظام عالمي سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو رياضي على سبيل المثال، فإن تلك المؤسسات يديرها أشخاص ويتربّع على قمة الهيكل الوظيفي لأيٍّ منها فرد تخضع المؤسسة بدرجة أو أخرى لأفكاره الخاصة ونزعاته الشخصية. وعليه، فإن طموح الرئيس التنفيذي إلى الشهرة – مثالاً على النزعات الشخصية لمن يحكم مؤسسة ما – لا بد أن يخلع أثره على سلوك المؤسسة وأدائها. كذلك، فإن طبيعة عمل المؤسسة – إضافة إلى طموح من يديرها إلى الشهرة – قد تقذف بها في وجدان الجماهير إلى منزلة تفوق نظيراتها من المؤسسات الأكبر حجماً مما لا يقع مجال عملها ضمن اهتمام الجماهير المباشر، أو تلك التي لا يهتم من يديرونها بالشهرة بقدر يُذكر.
في بدايات هذه الألفية، وفي غضون رحلة عمل تقنيّة إلى المملكة المتحدة كنت أتجاذب أطراف الحديث – غير التقني – مع مضيّفنا الودود ذي الأصول الباكستانية في المصنع الإنجليزي. كنت واثقاً وأنا أحدثه عن بعض أخبار أغنى أغنياء بريطانيا عربيّ الأصول، فردّ عليّ باندهاش مهذّب بأن أغنى أغنياء بريطانيا من أصل باكستاني وليس عربياً. واصلت في ثقة مشيراً إلى مجال عمل الملياردير عربي الأصول فردّ بأنه يعرفه تماماً ولكنه لا يقع حتى ضمن الخمسة الأوائل من قائمة الأكثر ثراءً في بريطانيا، ثم أردف قائلاً: “إنه فقط يمتلك سلسلة المتاجر الأكثر شهرة في البلاد”.
لم أعبأ ساعتها كثيراً بالتدقيق في صحة ما قاله مضيفنا الودود ذاك، ولكن تبيّن لاحقاً أن كلامه لا يخلو من الصحة، بحيث بدا أن عالم المال ليس استثناءً إزاء تجليات الشهرة، فالأضواء ليست مسلّطة في دنيا الأعمال على الأكثر ثراءً إلّا إذا امتلك بموازاة موهبة جمع المال موهبة سرقة الأضواء.