في ليل ساكن يهبط الموت من علياءه …. قاسيا .. و سريعا … لا يفرق بين بنى البشر … يصفع بقوة … طفلا كان … ام شابا .. او حتى كهلا … ماذا يفيد البكاء و قد كتبت لتلك الارواح النهاية … اكثر ما يوجع فى الموت هو ألم الفقد … و جحيم الذكريات واجترار الحنين… عذاب يومى متجدد .. أعمارنا صارت كورقة خريف … لا تصمد كثيرا .. نشيع شبابا لم يكمل الثلاثين بعد ، الى قبور مظلمة …. بينما يقبع آخرون فى السجون …بعضهم نعرفهم و بعضهم لم نقابلهم … لكن اكثرهم تشاركنا معهم فى حلم لم يكتمل .. حلم الثورة و الحرية … ان نجلس ذات يوم نحكى بفخر لاحفادنا عن ما انجزناه … لكن شيئا لم يحدث … و لن يحدث .
فجيعة اخرى تدمى القلب من ذاك الصباح الدامي المنقضى .. تخبر بوفاة الزميل الاعلامى والمدون الثائر ” براء اشرف ” … تاركا خلفه طفلتين و زوجة سيحرق الحزن قلبهم … بيد ان الدموع لن تطفئ هذا الحريق .. عرجت على ما خطه قبل وفاته …. غمرتنى دهشة ممزوجة بحزن عميق ، حينما قرأت مقاله عن الموت بينما لم يكمل عامه الثالث و العشرين … وتساءلت اى فلسفة يا ابن الموت سطرتها تنبئ برحيلك المفاجئ … !؟ .. فجل ما كتب يحدث فيه عن الرحيل .. ” وأريد، لو أنني أرحل عن العالم قبل الذين أحبهم. كنت محظوظاً بحيث لم أجرب فقد الأحبة كثيراً. أخاف هذه اللحظات. أخافها أكثر من خوفي من رحيلي الشخصي “.
أنت الان محظوظا كما تمنيت لانك لم تجرب وجع الفقد حيا.. لكنك تركت تعاسة و بركان حزن ازحت فوهته برحيلك ، يمور فى نفوس من احبوك … لماذا يا ” براء ” ؟ ابن جيلى كان متمردا عصيا على الاستسلام .. البراء كان طيبا ضاحكا ساخرا بعفوية… ذلك الحالم كان يسأل كثيرا و لم يهتد لاجابة قاطعة … عمره القصير لم يمهله ذلك ايضا ..فى مقالة له كتب : ” أريد لو أنني أتحكم قليلاً في الزمن، هناك أشياء أود لو أفعلها بسرعة، وأمور أخرى أفضلها بطيئة، أريد لو أقرأ بسرعة، أنام بسرعة، أحب بسرعة، أفقد ما زاد من وزني بسرعة ” … امورا كثيرة يا ” براء ” كنا نريدها ، لكن كتب علينا الشقاء .. من ذا الذى يستطيع التحكم بالزمن او ان يكبح جماحه… ؟ .. لا احد .. !! هو يعبرنا مهرولا … نحن فقط نسكن على هامشه … نسترق منه ما خلناه يحقق كفافا كى نعيش او نتعايش .. اتخيل نظرة ابنتيك و هن يبحثن عنك و يتساءلن ، و لن تجيبهن سوى دموع زوجتك ، و حضن دافئ لن يهون كثيرا من وطأة الفاجعة .. لم يكن براء وحده يختاله هذا الشعور القاسى بقرب موته ، كثير من الاصدقاء حدثونى عن شعورهم ، عبثا كنت احاول تغيير دفة الحوار ، و تبديد تلك الهواجس ، فلست افضل حال منهم ، ليس عندى تفسير لاحساسنا جميعا بأننا اصبحنا على بعد خطوات قليلة من حجرة ضيقة موحشة ، حيث الصمت و الوحدة يطبقان على المكان .. !!
الموت دائما يسير فى الجوار …. و على حين غرة يلتهم ارواحنا دون توقف و بلا رحمة .. بينما يترك ارواحا اخرى متشحة بدثار السواد … رحل براء و لن يسمع ضحكة صغيرتيه أو محادثة هاتفية من ابنته الكبرى تطلب شراء الحلوى و ان ياخذها فى نزهة ، لن يحتضن طفلته الصغرى بنظراتها البريئة ، لن يطبع قبلة على جبين زوجته المكلومة … القهر سيمزق قلوبهم ، و الايام لن تشفى انكسارا ابديا … بينما استقبل هو الموت متبسما كعادته فقد كان بينهما موعد تأجل كثيرا …. لم نعد نملك سوى بضع كلمات بائسة نسطرها فى رثاء من نفقد لعلها تكون رفيقا له في وحشته… فسلام على روحك الطيبة … وداعا يا ” براء ” ..