حدثني قبل عام، موظف جنوبي (متواضع القدرات ومحدود التعليم)، يعمل في إحدى جامعات الجنوب، وتوسل إلي كي أعلمه كيفية كتابة التقرير الصحفي، فقد كان مضطراً لنشر موضوع حول أمر يتعلق بعمله في إحدى مطبوعات الجامعة التي يعمل بها، حاولت أن أشرح له استحالة التعلم في دقائق عبر الهاتف وأن الأمر يستدعي جهداً وتدريباً ووقتاً، فكاد يبكي وهو يتوسل لي بكلام على شاكلة: “حضرتك الأستاذ والمعلم، وجنابك تقدر تحقق المستحيل”، قالها باللهجة الصعيدية المحببة، التي أجبرتني من فرط الإحراج أن أقوم بصياغة التقرير بشكل كامل خلال مكالمة استغرقت أكثر من ساعتين.
أرجو عزيزي القارئ ألا تندهش عندما تعلم أن صاحبنا يتشاجر قبل أيام على إحدى (الجروبات) السياسية، لأنه لم يستشار باعتباره خبير إعلامي (على حد وصفه)، معترضاً على نشر أي مواد صحفية تخص إحدى مؤسسات العمل العام التي تجمعني به (للأسف) قبل أن يراجعها شخصياً، ويختم ترهاته (مشكوراً) بجملة عبثية: “مع تقديري لوجود الأستاذ أبو شامة وقيمته الإعلامية الكبيرة”، فهو يعلم أنني أراجع كافة هذه المواد بحكم مسئولياتي التطوعية في هذه المؤسسة.
حدث هذا معي ويحدث مع غيري كل يوم في كثير من مؤسسات العمل العام التطوعي ومنها الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والأندية الرياضية، يحدث عندما يتصدر المشهد في هذه المؤسسات أشباه البشر ممن تزدحم بهم الحياة، من أنصاف المتعلمين الذين تضخمت نفوسهم بالباطل فتحولوا إلي أدعياء حق، وبعضهم يصدق فعلاً أكذوبة أنه الخبير (اللوذعي) الذي يملك حلولاً سحرية لإنقاذ البشرية، وهو ممن “يسألون الله حق النشوق”، كما يقول المثل الشعبي الحاذق.
هذا هو حال كثيرين في الصعيد وبحري وفي كل أرجاء المحروسة، من (فنجرية) الكلام، الجالسين على المصاطب يهيمنوا على الشارع السياسي عبر الفضاء الإعلامي الافتراضي، ينظرون ويحنجرون ويفتون في كل موضوع وفي أي حادث، وزادهم (السوشيال ميديا) غروراً على غبائهم وجهلهم، فتحولوا إلي كلاب ضالة، تعقر وتتحرش بأي شخص يكشف هذا الجهل ويفضح حجم الغباء الغارقين فيه.
هم نتاج السنوات العشرة الأخيرة، إفرازات زمن المسخ الثوري الذي أسست له (ثورة يناير)، والتي دون قصد سمحت باندفاع هؤلاء الغوغاء ليسيطروا على كل المسارات، ويتسكعوا على نواصي معظم المجالات، ستجد منهم صيدلي لم يكمل سنوات دراسته ينشر فيديوهات يعالج به السذج من المرضى، وامرأة مطلقة فشلت في حياتها الزوجية تحولت إلى (لايف كوتش) تنصح أخريات بأفضل طرق لحياة زوجية سعيدة، ومناضل سياسي لم يقدر على إقناع أحد بمشروعه السياسي، فأصبح مصدر رزقه ممارسة البلطجة السياسية، تجده يصرخ رافعاً شعارات التنوير على “سنجته” اللامعة التي يجمع بها (الإتاوات) في آخر الليل.
المشهد عبثي باقتدار، لكنك تشعر بالأمل عندما تلمح في نهاية النفق محاولات مضنية لإضاءة الطريق، وجهد خارق يبذله رئيس الجمهورية ورجالات الحكومة والجيش البواسل لجمع شتات هذا الوطن، وإصلاح ما فسد وبناء ما تهدم وعقاب من أجرم وتنظيف ما تلوث، وإحياء روح الوطن التي استنزفتها سنوات المحن، إننا ننحني احتراما لكل جهد يبذل لإعادة الاستقامة لحياتنا، واستعادة الأخلاق والقيم في تعاملاتنا اليومية، المشوار طويل لكنها الرحلة التي تستحق أن نضحي من أجلها، ربما يكون بدايتها هو “حوار وطني” جاد ومحترم ومنظم، يليق بما نحلم به.