إيمان مندور شيوخ التريندات
لو أن هناك شيئا لا بد من كرهه أكثر من التريند، فهو تفرّعات التريند، التي عادة ما تكون سخيفة وتنتهي لنفس المواضيع التي لا يمل الجميع من الخوض في أعماق خلافاتها خلال السنوات العشر الأخيرة دون أرضية نقاش محايدة ومنطقية وأخلاقية، سواء المرأة والرجل وعلاقة الندية والاستحقاق والظلم والحقوق بينهما، أو التدين ظاهرًا وباطنا والفتاوى المثيرة للجدل، أو الموقف من الفن وأهله ومحبيه وفساتينه ومشاهده وأفكاره الجريئة، أو التعصب الكروي بدلا من التشجيع والانتماء والاستمتاع، ومن قبل ذلك كله الخلاف السياسي الحاد الذي كاد يفرّق بين الإخوة في البيت الواحد خلال السنوات العشر الماضية. شيوخ التريندات
انتشار مواقع التواصل الاجتماعي بين جميع الفئات غيَّر حياة الكثيرين، لدرجة أن البعض صاروا يعيشون الجزء الأكبر من حياتهم وانتصاراتهم ومعاركهم وثقافتهم وسعادتهم واكتساب قيمتهم داخل إطار هذا العالم الافتراضي بدلا من الواقع. وبشكل ما استطاعت السوشيال ميديا تحويل النقاشات الجادة لحالة عامة من “الهري”، حتى في أشد الموضوعات تخصصًا الكل يدلي بدلوه في كل شيء وبأي كلام وفي أي وقت.
معضلة كبيرة لا ينجو منها إلا عاقل رزين، وعالم حقيقي. فأي عالم في أي مجال يدرك أن الكلام في غير أهله ولا توقيته ولا جمهوره لا يجدي نفعا، بل يكون ضرره أشد حين يأتي من أهل العلم والخبرة والتخصص الذين يلجأ لهم العامة للفهم والتثقيف ثقة فيما لديهم من معرفة وعلم. لكن أن يتحوَّل هؤلاء العلماء لمصادر “هري” كبيرة، يقتاتون على “التريند” ويتعايشون على إثارة الجدل وجذب الانتباه باستغلال أي تريند، تافها كان أو مهمًّا، فهي أزمة كبيرة لا بد من التصدي لها ولمن يتعايشون عليها.
شيوخ التريندات
منذ عرف بعض الشيوخ طريق الإنترنت، أصبحوا يناقضون أنفسهم، وتغيرت المسميات لاحقا، فتحوَّل مصطلح “شيوخ الفضائيات” لـ”شيوخ التريندات”، والمثال الأوضح مؤخرًا للجدل القائم بشأن هذه الفئة هو الشيخ مبروك عطية عميد كلية الدراسات الإسلامية السابق بجامعة الأزهر، فبعد مقتل الطالبة نيرة أمام جامعة المنصورة، استطاع الرجل بسهولة تحويل التريند “المهم” لتفرّعات لا علاقة لها بالحادث أصلا، ألا وهي الحديث عن ملابس المرأة واستخدامها للهواتف المحمولة، وأن الدروس المستفادة من حادث الطالبة هي الابتعاد عن ذلك.
ما علاقة ذلك بالحادث أصلا؟!
الحادث ليس تحرشا ولا علاقة له بملابس الفتاة أو علاقة عبر الإنترنت، المجرم مهووس بالفتاة ويرفض رفضها له فقتلها عن عمد. مجرم يستحق العقاب، والفتاة ضحية تستحق البحث عن حقها. ما علاقة الحديث الذي طرحه الداعية بالجريمة أصلا؟ ما شعور أسرتها حين يتحدث عالم دين في عرض ابنتهم وأنها قتلت لأنها لا تلتزم بمبادئ الدين وأنها على علاقة بالقاتل، في حين نفت النيابة ذلك أصلا؟
من الهزل للردح!
وبالعودة للسنين السابقة، نجد أنه منذ دخول مبروك عطية الإعلام عموما اقترن اسمه بالسخرية والمواقف الضاحكة على الشاشة والحديث بطريقة غير معهودة عن رجال الدين وعن أي شخص في الإعلام عموما. لكن حتى وإن تغاضينا عن ذلك، فإن طريقة “الردح” و”قعدات المصاطب” التي يفتخر بها لم تعد مضحكة بل أصبحت سببًا لفتن وأزمات لا تنتهي.
فمثلا يسخر من تعلق الشباب بالهواتف والإنترنت، ويؤكد للفتيات أن سبب فسادهن وكل ما يتعرضن له هو “الهباب أبو كاميرا” على حد تعبيره، بينما نجده هو منذ أن عرف طريق السوشيال ميديا صار متواجدا عليها بشكل يومي، متفرغ لكل تريند وكل تصريح وكل ما يتداوله الناس سواء في الفن أو الرياضة أو الأمور العامة، بل أيضا حين يمرض ويشتبه في إصابته بجلطة بدلا من أن يستدعي الطبيب ويكون بين أهله يظهر في بث مباشر من سريره وهو بحالة مرضية صعبة، ليكشف عن الأزمة التي يمر بها طالبا الدعاء.
لماذا لا تغلق كاميرا هاتفك أنت أولا يا شيخ بدلًا من وقوفك للحديث على كل ما يستحق وما لا يستحق؟ لماذا تسخر من الناس والشباب فيما ترتكبه أنت علنا؟ سواء استخدام الإنترنت في إثارة الجدل أو “الردح” للمخالفين؟ هل يصح أن يكون هناك عالم دين يسب الدين للمعارضين ولسانه لا يخل من شتائم وألفاظ نابية في حديثه ودعوات بالمرض والبلاء والعذاب على معارضيه؟! (يمكنك المشاهدة من هنــــا )
بعد البلاغات التي تم تقديمها بحقه بسبب تصريحاته عن الطالبة الضحية وعن كون غير المحجبة إن لم تستر نفسها ستقتل بسهولة، أدرك الشيخ أنه ورط نفسه فيما لا يستطيع مواجهته، فتراجع عن تصريحاته وأعلن اعتزاله الإعلام وتعليق حساباته على السوشيال ميديا، لكن لأنه لا يستطيع الابتعاد طويلا عن هذا العالم، تراجع عن قراره بعد 3 أيام، وعاد مرة أخرى للتعليق على الحادث عبر بث مباشر على فيس بوك!
هذا فيما يتعلق بمن لديهم مناصب علمية حقيقية نعتبرهم على أساسها رجال الدين، لكن ما موقفنا من أشخاص مثل عبد الله رشدي ونجل الحويني؟! لا منصب ولا علم ولا قبول ولا شيء سوى عشق الجدل وانتهاز التريندات لا سيما المتعلقة بالمرأة، ومع ذلك يتهافت الجميع، الجمهور والصحافة والإعلام، للتعليق على تصريحاتهم.. ماذا لو تجاهلناهم؟! هل هناك حل بخلاف ذلك؟! لا أعتقد.
الشهرة بالفتاوى الغريبة
أيضًا صار البعض ينبش في كتب التراث للخروج بكل غريب، لإثارة الموضوعات والفتاوى التي تجذب الانتباه وتثير الشبهات خاصة لدى الشباب، بدءًا من فتوى “إرضاع الكبير” الشهيرة لـ”زواج البارت تايم” لتحريم الجمبري وصور “بطوط” وترك الزوجة للمغتصب واستشهاد العاشق.. وغيرها من الفتاوى والأمور التي لم يعد الزمان مناسبا لطرحها بالأصل.
لكن على الجانب الآخر، نجد أن الأكثر ابتعادا عن التريندات بين جميع المنسوبين لفئة الدعاة هو الداعية مصطفى حسني، بل حين ازدادت التسأولات من الجمهور عن سبب صمته وعدم تعليقه على حادث الطالبة “نيرة”، أكد أنه لا يملك قيمة مضافة يضيفها لعقول الناس في هذا الحادث، فترك المجال لمن يكون أعلم منه ولديه قيمة مهمة يمكنه إضافتها في هذه القضية.. نموذج أصبح نادرا لشخص مشهور يبتعد عن التريند و”يغنيله”، ويقول عن شيء “لا أعلم.. هناك من هو أعلم به مني فاسألوه”!
الخلاصة، أنه متى عشق (الشيخ، المثقف، الفنان، اللاعب، المشهور عموما، الإنسان العادي) التريند، صار عبدًا له، وبالتالي يصبح الابتعاد عن الالتفات إليه واجبًا على كل ذي عقل وحكمة ورأي سديد.. لكن ماذا نفعل إن كان ما يقوله هذا المشهور يؤثر على المجتمع ككل بالسلب؟! أعتقد أن الأمر يحتاج لوقفة حاسمة وحقيقية لضبط المشهد.. حتى لا يتساوى الحديث باسم الدين بين العالم و”الشيخ الإنفلونسر”!