الطعام والشهرة قصة متعددة الفصول والأبواب، فبعض البلدان أشهر في الطبخ من غيره، وبعض أصناف الطعام بصفة عامة أكثر شعبية من الأصناف الأخرى، ومن الطهاة من طبّقت شهرتهم الآفاق دون أن يكونوا الأفضل بالضرورة. غير أن الأكثر طرافة على هذا الصعيد ربما يتبدّى في بعض أدوات الطعام وهي تكتسب عبر العصور شعبية فريدة بينما يظل غيرها قيد الاستخدام في بلدان محددة أو طبقات بعينها من المجتمع في هذا البلد وذاك.
في كتابExtraordinary Origins of Everyday Things ، الترجمة العربية بعنوان “قصة العادات والتقاليد وأصل الأشياء” عن دار الخيال ببيروت سنة 2016، يقول تشالز باناتي Charles Panati : “كان نبلاء الرومان والدهماء على حد سواء يتناولون (الطعام) بواسطة أصابعهم، شأنهم شأن جميع الأوروبيين، حتى حلول عصر النهضة وما تميز به من ذوق وتنميق. وبقيت حتى بعد ذلك التاريخ أشياء متناقضة، فكانت هناك طريقة مهذبة لتناول الطعام إلى جانب طرق أخرى فظة وخشنة تخلو من اللباقة. كان الإنسان الفظ منذ عهد الرومان ينقض على الطعام بجملة يده خلافاً للمهذب الذي كان يلتقطه بثلاث أصابع مراعياً عدم تلويث إصبعي الخنصر والبنصر”.
ما سبق من الاقتطاف، مما يدخل عبر باب “موضة تناول الطعام”، يفضي بنا إلى حديث طريف في كتاب تشالز باناتي عن شهرة أدوات تناول الطعام: “يدل كتاب عن آداب السلوك ظهر في الثلاثينيات من القرن السادس عشر أن الشوكة لم تكن شائعة الاستخدام في أوروبا قبل القرن السادس عشر، وعلى أن العادة الرومانية التي تستخدم الأصابع الثلاث ما زالت قائمة”.
استمراراً في تتبّع المسيرة الطريفة للشوكة مع الشهرة ضمن أدوات تناول الطعام نقرأ لباناتي: “الثابت أن الشوكات الصغيرة المستخدمة لتناول الطعام ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر الميلادي في توسكاني، وأنها لاقت آنذاك معارضة لاستخدامها، فقد ادّعى الكهنة بأن الأصابع هي وحدها الجديرة بملامسة الطعام هبة الله للبشرية. استمرت بالرغم من تلك المعارضة صناعة الشوكات من معدني الذهب والفضة بناءً على طلب أثرياء توسكاني، وكانت معظم الشوكات تصنع بشُعبين فقط. بقيت الشوكة مدة 200 عام على أقل تقدير بدعة صارخة”.
بذلك، يبدو أن شهرة الشوكة قد تعثرت بوضوح لقرنين كاملين منذ ذلك التاريخ، وبتعبير أدق فإن شعبيّتها هي التي تعثرت، في حين أنها ربما كانت حينها تحظى بشهرة متميزة لكونها أداة – لتناول الطعام – مثار جدال بارز.
نواصل مع باناتي: “تقول القصص إن نبلاء البلاط الملكي أحبوا استخدام الشوكة في مبارزاتهم بدلاً من السيف! كانت الشوكة في إنجلترا لا تزال، حتى في القرن الرابع عشر، تُعد تحفة إيطالية غالية الثمن تستخدم للتزيين فقط… بقيت الشوكة حتى في منشئها الأصلي إيطاليا مدعاة للسخرية حتى القرن السابع عشر، وكان من يستخدمها من الرجال خاصة ينعت بالتخنث. وبقي الناس يتناولون طعامهم بعدة من الطرق المقبولة مثل التقاط اللقمة بزوج من السكاكين ووضعها في ملعقة قبل تناولها، أو التقاطها بالأصابع الثلاث”.
هكذا إذن نرى كيف أن الناس تقاوم اختراعاً جديداً لا يروقها لأي من الأسباب حتى إذا اضطرت للتعويض عنه من خلال ممارسات أكثر صعوبة وربما غير منطقية في السياق ذاته كالاستغناء عن الشوكة من خلال التقاط اللقمة بزوج من السكاكين ووضعها في ملعقة قبل تناولها!
وإذا كانت الشوكة تبدو كما لو كانت الأحدث والأقل شهرة بين أدوات تناول الطعام مقابل السكين والملعقة (وربما حتى مقابل فوطة المائدة التي أرجع الكتاب استخدامها إلى ما قبل عام 500 قبل الميلاد)، فإن عِصِيّ الطعام لا تزال أقل ذيوعاً ومحصورة إلى حد بعيد في ثقافات الطعام ببعض بلدان شرق آسيا كالصين واليابان.
ومثلما هو الحال مع أي اختراع وأية فكرة جديدة فإن الذيوع المستقبلي لأدوات تناول أو صنع الطعام مسألة لا يمكن التنبؤ بها بشكل قاطع قبل التجربة العملية. وهكذا فإن النجاح التجاري هو الذي كفل حديثاً بصورة واضحة شهرة منقطعة النظير لأدوات مثل طنجرة الضغط “بريستو” والمقلاة “تيفال”. النجاح التجاري العظيم لمثل تلك الأدوات يعكس قبولاً جماهيرياً عريضاً لا يمكن تفسيره بمجرد أن الاختراع الجديد قد سهّل عمليات الطبخ على كل مستوى، فكثير من الاختراعات التي طُرحتْ للغرض ذاته لم تلق ما كان يطمح إليه مخترعوها من الرواج، والسبب قد يكمن في أمر طريف بدوره، فقد يكون الاختراع الجديد نفسه مدعاة إلى تيسير عملية الطبخ بالفعل، ولكن نظافة وصيانة الأداة المخترعة تكون معقدة أو مزعجة إلى درجة تجعل الاستغناء عن تلك الأداة خياراً أكثر سهولة من تبنّيها والانشغال بمعالجة مشاكل تنظيفها بعد كل استعمال وصيانتها على المديين المتوسط والبعيد.
بالانتقال من أدوات الطعام إلى الطعام نفسه ومطابخ الشعوب عبر الزمان، تبدو لنا مجددلااً (وربما بصورة أكثر وضوحاً) تعقيدات عملية الشهرة. كنّا قد رأينا في “جينات مصرية” تحت عنوان “المطبخ المصري عبر العصور” أنه “برغم أن المائدة العراقية ظلت عامرة عبر القرون ولا تزال، فإنها ليست ضمن الأشهر عالمياً أو حتى عربياً الآن، فالمطبخ اللبناني أكثر شهرة على النطاق العربي لا ريب، كما إن المطبخ المغربي اكتسب شهرة عالمية بخصوصية منقطعة النظير بالنسبة للمطابخ العربية… وعند العودة للتركيز على المطبخ المصري ستتراءى لنا خصوصيته الفريدة كما هو معتاد مع كل ما هو مصري، فعربياً ينطبق ما ذكرناه قبل قليل على الحالة المصرية، فالمطبخ المصري ليس في شهرة المطبخ اللبناني في الأسواق العربية، ولا في خصوصية المطبخ المغربي عالمياً، غير أنه مع ذلك اكتسب فرادته ابتداءً من مؤثرات عظيمة امتدت وتشكّلت عبر القرون، وإن يكن الأجدر بالانتباه أن الأطباق المصرية قد اخترقت قلوب العرب (لا بطونهم فحسب) ليس من خلال المطبخ المصري مجرّداً وإنما مضمّخة بحكايات وطرائق حياة الشخصية المصرية على كل صعيد”.
وإذا كنّا قد أشرنا في المقام نفسه عند قراءة “المطبخ المصري عبر العصور” إلى أن “مفارقات التأثيرات الثقافية لا تعرف حدوداً، حتى إن تاريخ البشرية يوشك أن يُقرأ على أنه تاريخ المفارقات بوصف المفارقة مرادفاً لفكرة تداول الأيام بين الناس”، فإن مؤثرات الشهرة وتجلياتها – سواء على صعيد الطعام وصناعاته أو غير ذلك من أصعدة الحياة وشؤونها – تُقرأ بأفضل طريقة على الأرجح تحت أضواء فكرة المفارقة نفسها، وذلك بالنظر إلى ذيوع اختراعات ومفاهيم لم يكن مقدّراً لها أن تذيع مقابل تلاشي غيرها من الاختراعات والمفاهيم التي كانت كل المؤشرات المرتبطة بقياسها ترجّح تخطّيها حواجز الأسواق واكتساحها وجدان الجماهير.
للتواصل مع الكاتب:
[email protected]