رباب طلعت
بشكل أسبوعي بات ضيوف البرامج التلفزيونية، أو مقدميها من غير الإعلاميين، من رجال الدين أو الأطباء وغيرهم، يحجزون مواقعهم في قائمة الترند، بإثارة الجدل بتصريح أو رأي ما، صادم للعامة، والرد عليهم يكون قاسيًا عكس المعتاد عليه على مدار أعوام من التصديق والتسليم بآراء العلماء خاصة الذين يظهرون في وسائل الإعلام، مما يثير التساؤل حول تأثير السوشيال ميديا على مكانة ضيوف البرامج ومصداقيتهم لدى الجمهور، وأسباب تزعزعها وعدم حدوث ذلك في الماضي.
ظهور ضيوف البرامج من رجال الدين والأطباء والعلماء تحديدًا، ليس بالأمر الجديد، ففي لمحة سريعة لما قبل عصر السوشيال، يسهل رصد بعض أبرز الرموز التي مرت على الفضائيات المصرية، سواء على التلفزيون المصري الذي انفرد بوجوه لن تتكرر، أو القنوات الخاصة فيما بعد، وإلى ما قبل ثورة منصات التواصل الاجتماعي.
فعلى مدار 28 عامًا، قدم خلالها الدكتور مصطفى محمود ما يقارب الـ400 حلقة من برامجه الشهير “العلم والإيمان”، الذي تربى عليه أجيال كثيرة، ما وضعه في مصاف العلماء ذوات الثقة التي لا خلاف عليها في مصر، وذاع صيته في العالم العربي كله، وكانت كتبه تحتل مكانة كبيرة خاصة تلك التي تتحدث عن شكوكه حول الإيمان ورحلته إلى الله.
ومنذ السبعينات وحتى اليوم لم يحظَ أحد بمكانة الشيخ الشعراوي، كعالم دين ومفسر للقرآن الكريم، فجلسته البسيطة على كرسيه أمام الجمهور في المسجد، وصوته الهادئ ذو النبرات المدروسة والموزونة في رمضان وأيام الجمعة، كان علامة فارقة في تاريخ التلفزيون المصري، فلم ينجح أحد بعده ولا قبله لأن يرتقي إلى مكانته عربيًا.
وفي أواخر التسعينات وأول الألفينات، بدأ ظهور عدد كبير من الوجوه الإسلامية المعروفة سواء كان على الطريقة المعاصرة أو كما كان يطلق عليهم “شيوخ البدلة”، وكان أشهرهم وأكثرهم تأثيرًا وجماهيرية الداعية الإسلامي عمرو خالد، أو شيوخ السلفية من ذوي اللحى الطويلة والفكر المتشدد على القنوات الإسلامية المتخصصة وأبرزهم كان الشيخ محمد حسان، وزملائه ممن كانت تصدح بهم تسجيلات المواصلات العامة وسيارات المتدينين الذين يستمعون بتأثر وبكاء، والمحلات والعيادات وغيرها.
كل تلك الأمثلة، كانت في وقتها نجومًا لا مساس بهم، لا أحد يستطيع القول أن مصطفى محمود “بيفتي”، أو أن الشعراوي يقدم تفسيرًا خاطئًا للقرآن، أو أن عمرو خالد يروي قصصًا مغلوطة، أو أن محمد حسان يعتمد على أحاديث ضعيفة! فالمتلقي كان إما مصدق ومحب ومُسلم لما يستمع له، أو صامت يكتفي بتغيير القناة، إلى عام 2011 بداية ثورة السوشيال ميديا في مصر وما قبله بعامين أو أكثر. فماذا حدث؟
قبل ثورة 25 يناير، بأعوام بسيطة تقريبًا كان ذروتها في 2008، بداية الانتشار البارز لفيس بوك في مصر، والذي كان انطلق عالميا قبلها بأربعة أعوام، بدأت “بوستات” صادمة للبعض ضد الشيخ الشعراوي، وما يقدمه، كانت تشعل خلافًا كبيرًا بين الناشر ومتابعيه، وغالبًا ما كانت تلك المنشورات على صفحات عامة، وليست في صفحات أشخاص بعينهم، وقد ظهر توجه بعضها فيما بعدها، أنها من الجماعات الإرهابية التي تكن كرهًا كبيرًا، وحاولوا من خلال منشوراتهم السلبية عنه تقليل مكانته عند جمهوره، ولكنها وقتها لم تفلح، فقد كان الرد قاسيًا، ولم تنجح اللجان الإلكترونية (ذلك المصطلح لم يكن معروفًا وقتها) في تشويهه.
الأمر كان صادمًا للكثيرين كيف لأحد أن يكره الشيخ الشعراوي، فالرجل على مدار سنوات، كان رمزًا لتفسير القرآن لكل الفئات، يتحدث مع البسطاء والعلماء بأسلوب راقي ومفهوم دون تعقيدات، وكان له مريدين ليس فقط من يجلسون أمامه يطلبون منه المزيد، بل من يشاهدونه خلف الشاشة بإنصات، ولكن مر الأمر ولم يتحول كما الآن إلى ترند.
من ثم، بدأت تظهر أيضًا انتقادات لمحتوى الدكتور مصطفى محمود، حيث وصفه البعض بأنه كان يسرق أفكاره من برامج وأبحاث أجنبية، وأنه كان يقدم معلومات خاطئة وما إلى ذلك، ولم يهتم أحد أيضًا، وفي ذلك الوقت كان لا يزال نجم عمرو خالد ومحمد حسان عاليًا نسبيًا، إلا أنه سريعًا ما هبط، وترجعوا بعد ثورة يناير 2011، ولكن لم يكن للأمر أهمية كبيرة أيضًا، ومضى بدون زوابع.
بعد ثورة 25 يناير، بالطبع بدأ عصر هدم الرموز، لا رمز اليوم سوى الصوت العالي، فالأحداث السياسية المتعاقبة وقتها، جعلت فئة الشباب، خاصة مع توحش صدى مواقع التواصل الاجتماعي، وزيادة أعداد المستخدمين لها في مصر بشكل كبير جدًا، بدأت صورة ضيوف البرامج، خاصة من رجال الدين والأطباء تتغير، نظرًا لأنهم أصحاب القدر الأكبر من المتابعة على شاشات التلفزيون، ومن ثم على مواقع التواصل الاجتماعي، وساعد في ذلك المجال المفتوح لدى المتابعين في التعقيب الفوري على تصريحاتهم عبر صفحاتهم، ما جعل أمر اكتشاف الأخطاء سهلًا، والتعليق عليه وتصدره الترند أسهل، ما يمنح صاحب التعليق الأول متابعين أكثر، وإعجابات أكثر، بالتالي بدأت ملاحقة المتابعين للضيوف، والتصيد لهم، ومن هنا بدأت القصة، حيث تغيرت صورة المصدر أمام المشاهد، وساعد في ذلك أسباب كثيرة.
في محاولة للبحث أكثر عن أسباب ونتائج تلك الأزمة، تواصل “إعلام دوت كوم” مع عدد من أساتذة الإعلام للوصول إلى أهم النقاط المتعلقة بتأثر مصداقية ضيوف البرامج من رجال الدين والأطباء مؤخرًا لدى المشاهد وفيما يلي تحليلاتهم:
انفتاح الجماهير على المصادر، كان السبب الأبرز الذي أرجعت إليه الدكتورة رشا علام نائب رئيس قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأمريكية الأمر، حيث قالت: “الجمهور لم يعد يتقبل المحتوى كما هو، فمع الثورة التكنولوجية والرقمية الحاصلة أصبح هناك تعدد كبير في المصادر، يسهل على المتلقي الوصول إليها بسهولة ليتأكد من صحة المعلومة في وقتها، ولكن هنا يجب أن ألفت الانتباه لأهمية التأكد من قوة المصدر، ومصداقيته، وصحة معلوماته.
أضافت “علام” أن الأمر يتعلق أيضًا بتحول شكل التواصل معا بين مقدم الخدمة الإعلامية والمشاهد أو القارئ، ففي الماضي كانت العملية صعبة، حيث كان يرسل رسالة للصحيفة بها رأيه، ويتم النظر فيه، لكن الآن الأمر أصبح فوري، كل يكتب على حسابه رأيه، ويتم التفاعل والتشابك معه، لافتة إلى أن لذلك أثارًا سلبية، أهمها أن المنتقد من الممكن أن يكون على غير علم حقيقي بما يناقشه، أو يريد استغلاله في اتجاه معين، وتوجيه الرأي العام له، مؤكدة أن تقبل الناس لأي محتوى في عصر السوشيال ميديا أصبح انتقاديًا وتفاعليًا بشكل أكبر.
وعن مسؤولية الضيوف في الأزمة قالت: “بعض الضيوف ليسوا على المستوى المطلوب، فمع تعدد القنوات أصبح الإعداد يبحث عن عدد أكبر من الضيوف للتنوع، فلم يعد هناك شرط اختيارهم اعتمادًا على مستواهم العلمي والأكاديمي الحقيقي”.
أما الدكتورة سلمى الغيطاني، مدرس الصحافة والإعلام ومساعد المدير التنفيذي بمركز كمال أدهم للصحافة التليفزيونية والرقمية بالجامعة الأمريكية، فتحدثت عن عامل آخر، أو احتمالية أخرى وهي “الترند الموجه”، حيث أكدت أن كثيرًا من الترندات المتعلقة بمشاهير، على الأغلب ما تكون موجهة ومفتعلة، إما بسبب الترويج للمحتوى، أو غيره، على عكس الترندات التي تظهر بسبب حدوث أمر جلل، ويتداوله الناس بشكل طبيعي وتلقائي، لافتة إلى أن الدور الإعلامي هو توجيه المشاهد أو المتلقي بأن يكون لديه الحد الأدنى من المعرفة التي تجعله يكتشف إذا ما كان الترند المشارك فيه موجهًا أم حقيقيًا، وتوعيته بأن هناك بعض الترندات الغرض منها تشويه بعض الشخصيات العامة سواء لأغراض اقتصادية أو سياسية أو غيرها.
وعن إذا ما كان وضع شروطًا على الظهور الإعلامي لرجال الدين والأطباء وأيضًا ظهورهم على مواقع التواصل الاجتماعي حلًا للحد من الأزمة أكدت أن ذلك غير ممكن، فلا أحد يستطيع وضع شروط للظهور على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا مجال لتكميم الأصوات عليه، واصفة إياه بأنه سلاح ذو حدين، مشيرة إلى أنها أثناء تدريسها مادة “التربية الإعلامية”، تحاول توعية الطلاب بكيفية الاعتدال في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وأكدت أن السوشيال ميديا قد كسرت تابوهات المصداقية في ضيوف البرامج بالفعل، وأصبح هناك انعدام ثقة فيهم بشكل كبير، لافتة إلى أنه الدراسات التي تجريها بعض المؤسسات العلمية الشهيرة عن مدى رضا الناس عن وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بشكل عام، تشير إلى أن هناك انخفاضًا ملحوظًا في الثقة فيها، ومع ذلك، فإنهم يؤكدون أنهم يحصلون على المعلومات والأخبار منها واستخدامها بشكل أقرب للإدمان، ما يعد تناقضًا كبيرًا في التعاطي مع تلك الوسائل.
وعن أزمة انعدام الثقة في علماء الدين والأطباء تحديدًا، قالت إنه كان لديهم منطقة خاصة جدًا من المصداقية والأهمية، ونحن نصف رجال الدين بأنهم قادة للرأي، ولهم تابعين، ولكن ما فعلته السوشيال ميديا هي كسر تلك الرمزية، حيث يجد الشخص أن من يكن له احترامًا وتقديرًا يشكك فيه أناس ويستهزئون بكلامه، بالتالي تهتز صورته في عقله، خاصة أنه كان يصدقه دون أساس علمي أو ديني قوي، بالتالي أصبح التشكيك فيه سهلًا أيضًا، وليس فيه فقط، بل في إيمانه وديانته بشكل عام، ويحدث لديه نوع من “اللخبطة”.
وعن تفاقم أزمة الانتقادات الموجهة ضد ضيوف البرامج أوضحت أن المشاهد منذ 20 عامًا لم يكن له صوت، كان الاتصال من اتجاه واحد فقط، من وسيلة الإعلام، والنقاش يدور في دائرة المعارف وهي دائرة مغلقة، عكس السوشيال ميديا حاليًا، أصبح التواصل في اتجاهيين، والرد فوري، بالإضافة إلى أن الناس أصبحوا ناقدين لاذعين، والطبيعة البشرية نقدية، وما فاقم الأمر أيضًا، أنه لا يوجد حساب للسب والقذف على السوشيال ميديا، أو توجيه الإهانات لأحد، فقلة من المشاهير هم من يتخذون إجراء قانوني ضده، لكن الأغلبية لا يتم اتخاذ أي إجراء ضدهم.
أما دكتورة نرمين الأزرق، أستاذة التشريعات والأخلاقيات في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، أكدت أن الجمهور هو الأساس وهو الهدف الحقيقي للإعلام، وفي حالة عدم نجاح الإعلامي أو الصحفي في الوصول إليه فقط فشل في مهمته، والأمر ينطبق على الضيف أيضًا، مؤكدة أن الأزمة من وجهة نظرها هي الإعلاميين الذين يحاورون الضيف، مشددة على أن من واجب المذيع أن يكون على دراية تامة بالموضوع الذي يناقشه، ويدرس أبعاده، ليعرف كيف يسأل الضيف، ويناقشه، ويصحح له، ويوقفه إذا ما تطلب الأمر.
أضافت “الأزرق” أن اللغط يحدث أيضًا بسبب فتح البرامج وترك مساحة كبيرة على السوشيال ميديا للمصادر للتحدث مباشرة مع الجمهور، وهو غير مؤهل لذلك ولا يعرف كيف يختار حديثه ووقته المناسب، مع طبيعة الجمهور المتصيدة للأخطاء حاليًا، فالإعلامي يدرس اهتمامات الجمهور وثقافته وفئاته، فيستطيع الموازنة، وذلك لم يعد يحدث حاليًا، بسبب المساحات المفتوحة للضيوف.
شددت: المفترض أن الضيف ضيف والمصدر مصدر والإعلامي إعلامي، والضيوف لابد أن يكون لهم حدود مرسومة وواضحة، لأن ما يحدث على السوشيال ميديا نوع من أنواع العبث، وواجب الإعلام توعية الجمهور، كي لا يتركه يلجأ للسوشيال ميديا، السبب الرئيسي في مشاكل كثيرة.