احترق مسرح ويليام شكسبير في لندن، والذي كان يعرض عليه مسرحياته، وفي اللحظة التي شاهد فيها وهج النيران تقضي على كل شيء، قرر العودة لدياره، واعتزال الكتابة!
هل للكاتب أن يعتزل الكتابة؟.. دار هذا السؤال في ذهني طيلة مشاهدتي للفيلم الإنجليزي All Is True فحين يعود شكسبير لدياره في ستراتفورد، بعد أن حقق مجدًا أدبيًا كبيرًا، يقرر أن يمضي باقي حياته بصحبة زوجته وابنتيه، لكنه يكتشف أن بغيابه أصبح ضيفًا على البيت، مجرد ضيف!
حاول مع الوقت التأقلم على البيئة الجديدة، وتعويض زوجته وابنتيه، لكنه اكتشف أن ذلك لا بد وأن يكون عبر “ويل” الأب والزوج والإنسان، وليس باعتباره “ويليام شكسبير” الأديب العظيم، وصاحب المال الوفير.
وفي أحد المشاهد الحوارية العظيمة في الفيلم، وحين تتهمه زوجته بإهمالها وأبناءها طيلة سنوات، يقرر عزاءها بمنطق غرور الكاتب العظيم، يقول إنه ترك لها بيتا بحديقة كبيرة، لم تحلم بالسكن فيه، وأملاكا أخرى، وترك لها مجد مصاحبة اسمها لاسمه! لتتدخل ابنته، باتهامه بالغرور والجهل، فهو لا يعرف أدنى معلومة عن حياتهم، وتصدمه بأن الأبيات الشعرية التي يحتفظ بها لابنه المتوفي، ليست من نظمه هو، وأنها هي من كتبتها، وبالعكس من ذلك فأن الطفل كان طفلا عاديا وليس طفلا ذكيا مبدعا كما كان يتخيل هو عنه! ليكتشف شكسبير أنه الأولى بالعزاء وليست زوجته.
ثم تتوالى المفاجآت، في الحياة الجديدة للكاتب العظيم، وفي مشهد حواري موجع، يبادر شكسبير زوجته بالسؤال حول الكيفية التي مات بها ابنه؟ فقد اكتشف -مؤخرًا- بأن عام موت الطفل، لم تحدث فيه إصابات بالطاعون، بعكس ما أخبرته زوجته بأن الطاعون حصد روحه! فتنهار الأخت التوأم لذلك الطفل الراحل، وتعلم أبيها بأنه انتحر بالغرق في النهر، وأن سبب ذلك عجز الطفل عن نظم الشعر كما تفعل أخته، وشعوره بالخزي أمام أبيه الكاتب العظيم الذي لن يفخر به كما سيفخر بأخته!
في هذه اللحظة، وما تلاها، يدوم الصمت الكبير، صمت عجز إعادة عقارب الزمن للخلف، صمت تأنيب الضمير لإهمال الأسرة، صمت خزي مطاردة المجد. وحين يزوره أحد أصدقائه من النبلاء، ويترجاه ليعود للكتابة، يقرر شكسبير الصمت. لكنه من داخله لن يعود مرة ثانية لتلك الفجوة الموحشة التي أخذته بعيدًا عن أسرته.
يُحكى أن الكاتب الإنجليزي الكبير، تشارلز ديكينز، كانت شخوص أبطاله الذين يكتبهم يطاردونه، في بيته وسط أبناءه! يتحدث معهم ليلا ونهارًا، وحين يختلي في مكتبه، تسمع أسرته صوته يتحدث ويتشاجر ويضحك ويتسامر، بل قيل إن بعض أبطاله، كانوا يتشاجرون معه إن اعترضوا على مصائرهم التي حددها، أو كان دورهم صغيرًا داخل الرواية.
فكأنما الكتابة الحقيقية، سر عجيب يسحب الكاتب، لمناطق سحيقة، في النفس البشرية، تجبره على الانعزال عن البشر، وإن تواجد بينهم فهو تواجد بالجسد فقط.