رباب طلعت الدراما الشعبية الدراما الشعبية
حالة انتعاشة فنية تشهدها الدراما المصرية خلال الأشهر الماضية، حيث نالت عدة أعمال إشادات واسعة آخرها كان “وش وضهر” المعروض على منصة “شاهد vip“، وقبله “ريفو” على “Watch iT”، وفي رمضان 2022 كان “راجعين يا هوى” المأخوذ عن قصة إذاعية للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، وبين الثلاثة أعمال أوجه شبه عدة ساهمت في نجاحها.
والنجاح المقصود هنا ليس مرتبطًا بأرقام مشاهدات دقيقة، إنما برصد ردود أفعال المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت “ترمومتر” لقياس نجاح أو شعبية العمل، بالإضافة إلى قوائم “الترند” أو الرائج حاليًا التي تضعها المنصات لإبراز الأكثر مشاهدة عليها، وعن أسباب نجاح تلك الأعمال نحاول الوصول إلى إجابات.
إذا ما ذُكرت الدراما المصرية، حضر عميدها أسامة أنور عكاشة، فله تحديدًا مكانة خاصة ليس فقط في وجدان المشاهد المصري بل العربي، فدراما “عكاشة” نشأ عليها المجتمع العربي بمختلف طوائفه، في مصر والشام والخليج والمغرب، ولم يستطع أحد أن يضاهي جزالة كتابته التلفزيونية الأدبية التي تغوص في أزقة النفس البشرية والمجتمع المصري كما هو دون تجميل أو تحريف.
ولأسامة أنور عكاشة إجابة وافية عن سر نجاح درامته في لقاء سابق مع الإعلامية سهير شلبي قال فيه: “هناك كنز أدبي جديد، وهو الدراما التلفزيونية، والأدب بيميزه رقي الفكرة والعبارة ونصاعتها، واقترابها من الشعر، كل ما كان الجملة قريبة من الشعر كل ما كانت صورة من الأدب الخالص، لو عايزين النص التلفزيوني يعامل معاملة النص المسرحي أو حتى قصيدة الشعر، لازم يكون راقي ويحمل فكرة وصورة ممكن تفسر الدراما اللي موجودة، فلغة الحوار في دراما التلفزيون مهمة جدًا، لأنها بتعمل نوع من ترقية المشاعر عند المتلقي، لأن لما جملة تأثر في المتلقي لا يمكن ينساها، وأول نتيجة لده إنه هيتمثلها في سلوكياته الخاصة، وده تأثير التلفزيون الخطير، ولو العكس لو الحوار مسف أو هاتف، تخيلي الناس هتاخد من أداة خطيرة زي دي ايه؟ عشان كده اللي بكتبه للتلفزيون لازم يكون مصنف أدبي”.
فـ”عكاشة” رأى أن العامل الأساسي في نجاح النص التلفزيوني هو رقي لغة الحوار، والكتابة القصصية ذات الطابع الأدبي المتحضر، أم العامل الآخر فكان من وجهة نظره هو تصديق الجمهور للعمل وشخصياته التي تشبه المجتمع الحقيقي، حيث قال: “الصدق بمعنى إيه، إزاي الناس تصدقك، إزاي الناس لما تتفرج على الشخصية تعرفها، يقول ده جاري ده معرفش مين، فلازم كل شخصية من دول تتكلم بلسانها وتتصرف بسلوكيات البيئة بتاعتها، متلاقيش المعلم أو صاحب البلد يتكلم بلغة سليم البدري، بتتكلم بلغتها هي لغة الشخصية، مش لغة المؤلف، وشطارة المؤلف إنه يستخبى ورا شخصياته ميفرضش شخصيته عليها”.
الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة في حديثه وضع ما يسمى بـ(Headline)، لنجاح العمل الدرامي من وجهة نظره، والتي يمكن تطبيقها بسهولة على الأمثلة الثلاثة المذكورة (راجعين يا هوى، ريفو، وش وضهر)، فكل منهم بالفعل تميز بالصدق في رسم الشخصيات والعلاقات الإنسانية إيجابيًا وسلبيًا ففي “راجعين يا هوى” نجد أنه في المنزل نفسه هناك شريفة ويسرية، لكل منهما شخصية مختلفة تمامًا، فالأولى سيدة راقية تتحدث بلسان طبقتها، والثانية شعبية كما يجب أن يكون، أما في “ريفو” فكانت الشخصيات في التسعينات بكل تفاصيلها أقرب ما يكون لما عاصرناه في تلك الفترة، أما “وش وضهر” فشخصياته وعلاقته يمكن إسقاطها على أناس من حولنا مثلًا علاقة (هبة وعبده وردة) التي قدمها ثراء جبيل وإسلام إبراهيم، تلك العلاقة المضطربة والذكورية التي تتكرر باستمرار في مختلف الطبقات، وكذلك “أبو البراء” الذي يمكن تسميته على شخوص بعينها في حياتنا، بالإضافة طبعًا للقصة نفسها والأحداث أو كما وصفها “الرسالة”، والحوار.
وامتدادًا لوجهة نظر “عكاشة” في صدق الشخصيات، يشار إلى دقة التفاصيل في تلك الأعمال، فـ”ضحى” التي تقدمها الفنانة ريهام عبدالغفور في “وش وضهر”، فتاة ريفية بسيطة، ومساعدة طبيب كما يجب أن تكون، بملابسها البسيطة والروج “الفوشيا” الذي تفضل وضعه لملائمته مع لون بشرتها، والحجاب المنسدل على كتفيها أشبه بالخمار، والفساتين غير الفضفاضة وفي نفس الوقت لا تصف الجسم، وصبغة الشعر التي زال لونها من منتصف الشعر، والشعر البسيط المصفف والمربوط ببساطة دون “استشوار” أو غيره، وكذلك شقيقتها و”هبة” صديقتها الراقصة، و”ضحى” نفسها وهي راقصة أفراح شعبية، ترتدي ملابس تشبه تلك الفئة كثيرًا.
وبعيدًا عن الشخصيات تظهر التفاصيل أيضًا في المأكولات المصرية الشعبية سواء في طبق المسقعة الذي أعده “جلال – جمال” مع الدكتور “جلال” أو “الطرشي” الذي يصنعه عريس “ضحى”، وكذلك في “راجعين يا هوى” كانت المسقعة حاضرة حيث أعدها “بليغ” لأبناء أخوته وعمه، بجانب الفول والطعمية والعيش “أبو ردة” الشعبي الشهير، والمحشي وخلافه على سفرة “يسرية”، والذي لن تجده على سفرة “شريفة هانم” حيث ستجد لديها المأكولات الفرنسية والأجنبية التي تتناسب مع طبقتها، أما في “ريفو” فالاسم نفسه يعود إلى دواء “ريفو” المصري الشهير لعلاج الصداع ونزلات البرد، ومعه ظهر “الشمعدان” البسكويت الأشهر في فترة التسعينات، بجانب عبوات “الكاكولا” الزجاجية التي تنطق بهذه الطريقة وليس “الكوكاكولا”، وغيرها.
والتفاصيل بالطبع طالت تصوير الشوارع المصرية كما هي بعيدًا عن الكمبوندات وتصوير “الدرون” الذي بات عادة شبه ثابتة في أعمال درامية حديثة، حيث كانت الكاميرا تجول في شوارع القاهرة القديمة “الجمالية” وغيرها في “راجعين يا هوى”، وكذلك في الزمالك والمعادي في “ريفو”، وصولًا إلى طنطا في “وش وضهر”، ذلك بالإضافة لأشكال السيارات والديكورات والمنازل في كل منهم، والأخيرة تحديدًا لافتة جدًا، حيث كانت المنازل كلها تتناسب تماما مع طبيعة الظروف الاجتماعية للأبطال بعيدًا عن المبالغة الكبيرة في تجميل المنازل والحداثة غير المنطقية في أعمال كثيرة في الديكورات.
ما تم الإشارة إليه أعلاه، يقودنا إلى نقطة هامة جدًا، وهي ملائمة تلك الأعمال لتصنيفها على أنها “دراما شعبية”، أو دراما تتحدث عن الشعب المصري الغني بالقصص والملامح الإنسانية والصراعات الدرامية التي كانت وما زالت وستظل منبع إلهام الكتاب، سواء في العاصمة القاهرة أو في المحافظات والأقاليم، فالشعب المصري نسيج بسيط في حياته معقد في تركيبته، متنوع ومختلف بشكل كبير، وقد غفل الكثير من الكتاب عن ذلك، واكتفوا بالتركيز على صراعات طبقة واحدة التي تقطن داخل أسوار الكمبوندات والفلل والقصور، مما جعل الأفكار المقدمة متشابهة إلى حد كبير، وبعيدة أيضًا عن أطياف الشعب التي تشكل الأغلبية، مما يجعلهم يلتفون حول ما يخرج منهم أو يتحدث عنهم.