عمرو منير دهب
هل الجمع بين مجالين أو أكثر في العمل وعلى صعيد أنشطة الحياة بصفة عامة يضاعف فرص الشهرة؟ الأرجح أن إجابات كثيرة ستتسارع إلى “نعم”، ولن نقول إن الإجابة الأدق هي العكس تماماً بل نقول إن تعدد مجالات المبدع ليس كفيلاً بالضرورة بمضاعفة فرص الشهرة أمامه.
يمكن أن نقف على واحدة من الحالات المتميزة للجمع بين مجالين مع واحد من أبرز المفكرين المعاصرين هو نعوم تشومسكي Noam Chomsky ، وذلك عبر لقاءات أجراها معه جيمس ماغيلفري أستاذ الفلسفة في جامعة ماك جيل Mc Gill بمونتريال الكندية وضمّها كتاب The Science of Language: Interviews with James McGilvray ، الصادر في الترجمة العربية بعنوان “علم اللغة: مقابلات مع جيمس ماغيلفري” عن دار العبيكان بالرياض سنة 2015. في الفصل الخامس والعشرين من الكتاب بعنوان “اللسانيات والسياسة” يدور الحوار التالي:
“جيمس: ما العلاقة بينهما؟ أعلم أنك قد سئلت هذا السؤال مرات كثيرة – (من قِبل كثيرين) بمن فيهم أنا – وراوغت في الإجابة عنه لأسباب عدة.
تشومسكي: … إذن، سأزوغ عنه ثانية، لأنني متأكد من أن الأسباب ما زالت قائمة…
جيمس: حسناً، سأحاول، على أي حال: ما العلاقة بين عملك في علم اللسانيات وعملك السياسي؟
تشومسكي: حسناً، إنه عمل مبدئي، ومع ذلك فهو، ضعيف…
جيمس: لقد قلت: ليس هناك رابطة فكرية عميقة، فإنني أقرأ دائماً أن الاستنتاج مستحيل…
تشومسكي: … لا توجد رابطة استنتاجية، فيمكنك أن تتبنى رأياً في أي من هذين الموضوعين، ولن يكون تبني تلك الآراء متنافراً… أنت تعرف الفكرة، ولست ملزماً بتكرارها، وتأتي مرحلة يدخل عندها الالتزام بحرية الإنسان إلى الحقلين، ولكنك لا تستطيع فعل الكثير بذلك وحده”.
إجابة تشومسكي تبدو – كما وعد بذلك – مراوغة، ولكن الأهم – على الأقل في مقامنا هذا – ليس إثبات وجود علاقة من قبيل ما بين المجالين أو نفي أية صلة محتملة بينهما مطلقاً. ما يهمنا هو البحث في أثر “التأرجح” بين مجالين أو أكثر على المبدع، وفي حالة نعوم تشومسكي يبدو أن الجمع بين السياسة واللسانيات قد أفاده كثيراً، فمن الصعب جداً تخيّل أن الرجل كان من الممكن أن يحصد القدر الذي يتمتع به من الشهرة لو اكتفى بعلم دقيق كاللسانيات لا يعني إلا قلّة حتى ضمن المهتمين بآداب اللغة والعلوم الاجتماعية. ولكن اللسانيات ربما خلعت على الرجل من جلال العلم وهالاته ما أسبغ عليه مسوح العلماء المهيبة وزيّنه بصيتهم الرزين ليهَب من ثمّ آراءه السياسية ورؤاه الفكرية مصداقية فريدة وقيمة استثنائية. في كل الأحوال يبدو فضل السياسة على شهرة نعوم تشومسكي أكبر بوضوح من فضل اللسانيات، ولكن الأخيرة لم تعرقل شهرته بقدر ما رسّختها وزانتها على الأرجح.
في الصعيد العربي، تزخر كلاسيكيات الأدب الحديث بالمقارنات – على مستوى الثنائيات بصفة خاصة – تعليقاً على الإنجاز والتأثير للمشتغلين البارزين في الحقول الأدبية والاجتماعية. طه حسين أكثر ذيوعاً من عباس العقاد على سبيل المثال للمقارنات الثنائية بين الأدباء العرب المعاصرين، وإذا كان الأول هو الأشهر بصفة عامة، فإن الثاني لا يعدم العديد من أسباب تميّزه الخاصة. والقول بأن إنجاز العقاد توزّع (تشتّت) بين أكثر من نوع أدبي لا يبرّر تراجع شهرته إزاء طه حسين الذي برز ناقداً ومفكراً أدبيّاً أكثر من بروزه في أضواء أي تصنيف آخر.
ليس من الحكمة إذن المسارعة إلى القول بأن كثرة مجالات الإبداع على صعيد الأدب والفكر لدى عباس العقاد كانت على حساب تيسير ذيوعه وشهرته، فالغالب أن من يبدع في أكثر من مجال لا تتعثّر شهرته بسبب كثرة مجالات إبداعه وإنما يقنص الشهرة من أحد تلك المجالات أكثر من الأخرى، وهكذا يمكن التماس تبرير تراجع ذيوع العقاد النسبي (أمام طه حسين تحديداً كما في ثنائية المقارنة الشهيرة) بأسباب أخرى من قبيل صعوبة أسلوب الرجل وطبيعة القضايا الفكرية والمواضيع الأدبية التي يتناولها، بحيث يبدو – والحال كتلك – الجمع بين أكثر من مجال أدبي وفكري داعياً إلى ترسيخ المكانة الأدبية لدى المفكر الكبير وليس سبباً في تراجع شهرته.
النصيحة القائلة بعدم تشتيت المبدع إنتاجَه بين أكثر من مجال – لضمان التركيز على البروز في مجال بعينه ولتلافي تعثّر الصيت الذائع المنشود في زحمة المجالات المتعددة – لا تبدو نصيحة دقيقة على إطلاقها، فالمبدع الأصيل لا يُحكم السيطرة عادة إحكاماً مطلقاً وهو يندفع (تلقائياً) إلى الإبداع في مجال بعينه على حساب غيره من مجالات الإبداع التي جرّبها، سواءٌ خلال فترة ما من حياته أو في معظمها.
من الحكمة إذن ألّا يعمد المبدع إلى أية محاولات لجرّ وجدانه إلى ناحية بعينها من الإبداع يرى أنها أجلب للشهرة من غيرها، فالإبداع الأصيل الأدعى إلى جلب الشهرة الراسخة ينطلق عادة بتلقائية شبه مطلقة، ولا يضير المبدع أن يتوزّع إبداعه بين أكثر من مجال تماماً كما لا ينفعه بالضرورة أن يستأثر بإبداعه مجال بعينه، فأسرار الشهرة تتجاوز مجالات الإبداع بحيث تستقر على الأرجح في أسلوب تناول المبدع إبداعَه وطريقة مواجهته لجماهيره المرتقبة بصرف البصر عن طبيعة مجال الإبداع أو عدد المجالات التي يجد مبدعٌ متعدد المواهب نفسَه مهيّأً للانطلاق من قواعدها جميعاً بلا أفضلية واضحة لأي منها.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])