الفصل الأخير من كتاب لوغاريتمات الشهرة
بإلقاء نظرة شاملة على مختلف الأصعدة يتبيّن أن الأشهر ليس بالضرورة هو الأجدر من حيث الموهبة أو المجهود أو حتى الإنجاز، فالشهرة كما ظللنا نشير باستمرار حظ يمكن تفسيره بثقة ووضوح بعد تحقّقه لأية شخصية أو أي موضوع ويصعب إلى حد الاستحالة في كثير من الأحيان التنبّؤ به بصورة جازمة، خاصة عند ملاحظة أن تحدّي الشهرة ليس محصوراً في خيارين: شهرة أو “لاشهرة”، وإنما يشمل بصورة أساسية درجات الشهرة وأشكالها المتباينة بما يفوق الحصر.
في كتابه “فن الشهرة: عباقرة تسويق النفس من ألبرت أينشتاين إلى كيم كارداشيان” يلتفت راينر زيتلمان Rainer Zitelmann إلى حقيقة أن الشهرة ليست متعلقة بمدى الإنجاز، وهو التفات بارع يشير إليه المؤلف على مدى الكتاب من خلال الأمثلة التي يتعرض لها من المشاهير ابتداءً بألبرت أينشتاين وصولاً إلى كيم كارداشيان، لكن الدكتور زيتلمان ينظر تحديداً إلى ما يسميه “فن تسويق الذات” بوصفه أبرز الأسباب المؤدية إلى الشهرة. تسويق الذات بالغ الأهمية بالفعل في الحياة، وهو يدفع إلى النجاح – في كثير من الأحيان – مَن هم أضعف موهبة وأدنى إنجازاً في مجالاتهم على حساب الأعمق موهبة وأضخم إنجازاً. ولكن تسويق الذات نفسه بحاجة إلى تفسير، فقد يركّز طامح إلى الشهرة اهتماماته في تحرّي أفضل السبل لتسويق ذاته ولا يجني من الشهرة بعض ما جناه منافس أسعده الحظ بفرصة واحدة لم يخطّط لها كانت مدخله الذي انطلق عبره إلى عوالم النجومية.
تحقُّق الشهرة تسهم فيه جملة من العوامل المتباينة والمتداخلة عند إلقاء نظرة عامة على قصص المشهورين على اختلاف مجالاتهم، ولكن بتدقيق النظر في كل قصة يتبيّن في الغالب أن عاملاً بعينه – قد يكون عابراً ضعيف التأثير بصفة عامة – هو ما أدّى بصفة خاصة إلى تحقق شهرة موضوع كل قصة على حدة، سواء أكان ذلك الموضوع هو شخصية ما أو فكرة بعينها.
قد تتحقق شهرة مفكر ما بسبب إنجاز فكري ليس أصيلاً أو عميقاً، ولكن ذلك المفكر أفلح في جذب اهتمام الجماهير، على غير الحال مع مفكرين أعظم أصالة وعمقاً لم يسعفهم الحظ بأن تنال أفكارهم اهتماماً ذا بال من قبل الجماهير العريضة. وعند النظر بصفة عامة، فإن عمق الإنجاز وأصالته قد يقفان حائلاً أمام الانتشار مفسحَين المجال لما هو أكثر بساطة وأقل وزناً للانطلاق تحليقاً في سماوات الشهرة.
الأكثر بساطة وأقل وزناً ليس عيباً موضوعياً في كل الأحوال، والسعي إلى الشهرة في ذاته حق لكل مبدع ولكل إنسان، وعليه فإن تحقُّق الشهرة لشخصية ما ليس جريمة تحاسَب عليها تلك الشخصية مهما يكن المحتوى الذي أهّلها للشهرة واهياً من وجهة نظر ما، فالمسؤولية تقع في النهاية على كل من ساهم في ترسيخ تلك الشهرة ابتداءً بالقائمين على مختلف المحافل التي ظلت تلك الشخصية تطلّ عبرها وانتهاء بالجماهير التي صادقت على الشهرة بالقبول وشغف المتابعة.
قد يكون أحد الأسباب البارزة التي تساهم في ترسيخ شهرة شخصية ما أو فكرة بعينها عاملاً يبدو هامشياً، وفي مقدمة تلك العوامل التي تبدو هامشية الاسمُ الذي تُقدَّم من خلاله تلك الشخصية أو ذلك الموضوع للناس. في كتاب “تواضعوا معشر الكتّاب”، وتحت عنوان “كاريزما الكاتب”، رأينا أننا “عندما نفشل في تحديد أسباب نجاح قائد أسطوري أو نبوغ خطيب مفوّه نعلّق فشلنا على حمّالة “الكاريزما”، فالقول بأن زيداً من القادة أو عَمْراً من الخطباء يتمتع بكاريزما عالية تجعله يأسر من حوله هو أشبه بأن نقول إن ذلك الرجل يخلب ألباب الناس لأنه يتمتع بالقدرة على خلْب ألباب الناس. ألا يدخل هذا في حكم تفسير الماء بالماء؟ القول بأن رجلاً ما يتمتــّـع بكاريزما عالية لا يخرج عنه كونه وصفاً لذلك الرجل وليس تفسيراً لأسباب نجاحه ونبوغه قائداً أو خطيباً أو ما عداهما”، ثم واصلنا إلى حيث رأينا أن “أداة الكاتب الكاريزمي الأوّلية فيما نزعم هي اسمه الذي ينبغي أن يكون موسيقياً قابلاً للحفظ – إلى غير نسية – من الوهلة الأولى التي تقع فيها عينا القارئ عليه”، وذلك في إشارة إلى أهمية الاسم، ليس باعتباره أساس الشهرة وإنما البداية التي ينطلق منها طالب الشهرة إلى المجد حتى ضمن مجال في رصانة الكتابة بصفة عامة.
ولكن الشهرة عندما تُنعم برضاها على شخصية ما فإنها لا تدع بدورها عاملاً يقف في طريقها، فإذا لم يكن اسم تلك الشخصية يمتلك ما يكفي من الجاذبية تندفع الجماهير تلقائياً إلى خلع اسم مميّز لتلك الشخصية يغدو بمثابة اللقب الذي يسبق الاسم أو يتبعه أو حتى يقصيه تماماً ويحلّ محلّه.
بالعودة إلى كتاب راينر زيتلمان المميز على هذا الصعيد، نقف على بعض الأسباب الأساسية (والتي قد تبدو هامشية أو حتى غير منطقية أحياناً من وجهة نظر البعض) في تحقيق شهرة النجوم على اختلاف مجالاتهم. يقول الدكتور زيتلمان في المقدمة: “الواقع أن كثيراً من الأشخاص الذين يتناولهم الكتاب حققوا إنجازات استثنائية ضمن مجال المهن التي اختاروها، ولكن إذا تفحصنا الأمور عن كثب نلاحظ أن مدى شهرتهم فاق بمراحل مستوى إنجازاتهم، ولنأخذ مثلاً ستيفن هوكينغ، الذي يمكن اعتباره أشهر عالم في عصره، فقد كان هوكينغ يعي الوضع جيداً (قائلاً): بالنسبة إلى زملائي، أنا مجرد عالم فيزيائي آخر، ولكن بالنسبة إلى العامة ربما أكون قد تحولت إلى أشهر عالم في العالم”. يواصل زيتلمان: “كان هوكينج، الذي برع في تسويق نفسه، معروفاً في أوساط العامة أكثر من كثير من حاملي جائزة نوبل، مع أنه لم ينل هذه الجائزة، إضافة إلى أن نظراءه لم يكونوا يرون فيه العالم الاستثنائي الذي يتصوره العامة، فعلى سبيل المثال، في المسح الذي أجرته مجلة Physics Word لعلماء الفيزياء في الألفية الماضية، لم يرد اسمه على قائمة أهم عشرة علماء فيزياء أحياء”.
استمراراً فيما يراه براعة من هوكينغ في “تسويق نفسه” يقول راينر زيتلمان: “وكان ستيفن هوكينغ أكثر جرأة، فقد تمكن من تحويل إعاقته إلى مزية، فعندما سئل كيف تمكن من تحقيق الشهرة أجاب: السبب جزئياً هو أن العلماء، عدا أينشتاين، ليسوا نجوماً شعبيين معروفين على نطاق واسع، هذا إضافة إلى أني مناسب تماماً للصورة النمطية للعبقري الذي يعاني إعاقة، وأنا لا أستطيع التنكر بارتداء شعر مستعار ونظارة شمسية غامقة، فسوف يفضحني الكرسي المتحرك”.
إذا كان حال الشهرة كذلك مع ستيفن هوكينج، فماذا عن ألبرت أينشتاين الحائز على جائزة نوبل (ماذا عن أسباب شهرة الجائزة نفسها؟) والاستثنائي حتى في نظر زملائه العلماء؟ هل كانت البراعة العلمية واستثنائية الإنجاز كفيلتين بتحقيق شهرته؟ الإجابة التي يرجِّحها زيتلمان في كتابه هي لا: “سعى ألبرت أينشتاين، وعلى نحو واعٍ، إلى تكوين صورته بوصفه عالماً أشعث الشعر لا يعبأ بهندامه، رجل غريب الأطوار لا يلقي بالاً لما يرتدي من ثياب، ويمقت الياقات الرسمية وربطات العنق، ولا يسرح شعره الطويل، ولا يرتدي جوارب، ويترك قميصه مفتوحاً”.
يواصل زيتلمان عن أينشتاين: “يقول كاتب سيرته الألماني يورغن نيفيه Jürgen Nefee: إن أينشتاين يناسب تماماً الصيغة المألوفة للعالم البارز الطليعي. ويضيف أن أينشتاين كان “الموضوع المثالي للمصورين والصحفيين، ولكل الجهات التي تساعد على تحقيق الشعبية، وكانت تربطه بهؤلاء علاقة تكافلية غريبة”. وعندما سئل أينشتاين يوماً عن مهنته أجاب متهكماً: عارض أزياء. وتقول إحدى الشائعات إنه بمجرد اقتراب المصورين من أينشتاين كان يعبث بشعره بكلتا يديه ليستعيد الصورة النموذجية للبروفيسور العالم الغريب الأطوار”.
على كل حال، ومهما تكن القصة الحقيقية للصورة، فإن عالماً راسخ المكانة العلمية كأينشتاين يُخرج لسانه للمصورين – وهو يعلم أن صورته ستجوب الآفاق بعدها مباشرة – لا يمكن التشكيك في قدراته على سرقة الكاميرا ولفت الأنظار، ليس بالضرورة بمنأى من إنجازاته العلمية الفريدة ولكن على الأقل بموازاة تلك الإنجازات.
الشهرة إذن لا تعني أن من يقتنصونها هم الأفضل (من حيث الموهبة أو المجهود أو الإنجاز) في مجالاتهم بالضرورة، بقدر ما تعني أن إنجاز أولئك الذين أصبحوا مشهورين قد استرعى انتباه الناس بصورة واضحة. والحال كتلك، ألا يمكن النظر إلى كل مشهور بوصفه مستحقاً للشهرة على اعتبارها تعني أساساً النجاح في النفاذ إلى وجدان الجماهير؟ ألا يمكن القول بأن الأجدر بالشهرة هو من حققها بالفعل حتى إذا لم يكن الأعمق موهبة أو الأعظم مجهوداً أو الأضخم إنجازاً؟ الفصل الأخير من كتاب لوغاريتمات الشهرة
للتواصل مع الكاتب:
[email protected]