شيكابالا، هذا البديع في تلوُنه الكبير في إبداعه.. ذلك الجبار في تمكُنه، وقدرته على تجاوز الأزمنة، الذى عايشته في صغره ساحرا للكرة، غير الذي عشت أنت معه وهو مدفون تحت تراب التنمر والسفه، باكيا خجلا، حتى أصبح “مرحوما” من لعب الكرة مدفونا في السخط.. هذا التشكل التاريخي في مسيرة لاعب كان واعدا فأصبح في ذمة الله كرويا، تدرك معه أن الرجل المنغمس في حقبة الأربعينيات، كان موجعا في حرفنته، لدرجة أحبطت فكرا جمعيا قادرا على الخوض في العرض وكسر الأحلام حد الموت.
“لا حق لهم في التحقير من لونك أو هويتك، أو دينك، إلا من أساء منهم فعليه تدور دائرة السوء، ويبوء بإثمه أمام الإنسانية والتاريخ والروابط القدسية بين البشر”، هكذا كان الفتى شيكابالا يفكر بينما يخطو خطواته الأولى على الأرض الترِبة محبا لكل ما هو مستدير.. كان صاحب بسمة خلابة، وهو يشاكس أصدقائه الصغار، بينما يركل الحصى بحذاء مهترئ من كثرة المراوغة.
كان الفتى الحالم باسم الثغر، المتسامي بالتفرد والوحدة، إذا ما اصطفى لنفسه خلوة، يداعب الصخرة المكورة كأنه مارادونا في أرض الطين والنخيل، لكنه مع ابتسامته العابثة تلك، ظلت تؤرقه فكرة النبذ والتنمر من لونه، الذي حباه الله إياه ليلمع مع ضي الشمس كأنما قد من صخر الرجولة والعنفوان.
كان يلمس الحجر فيلين بين قدميه، طائعا مستديرا ساحرا، يبتسم له، كما يبتسم، ويحزن له إذا حزن.. بل كان الحجر المستدير يطاوعه إذا قرر التصويب إلى مرمى وهمي، كأنما هو كرة مطاطية طيّعة لينة صنعت من جلد النمور فوق جبال الأوليمبي. وكان الفتى شيكابالا راضيا تماما بالمصير متطلعا للغد يحلم بقلب أبيض ناصع البياض بأن يلعب بالكرة كيفما شاء وأينما شاء، لكن ما كان يروعه شيء واحد لا ثاني له في هذه الدنيا، لون بشرته الساحر رغم كل شيء.
عندما شب الفتى شب معه الحلم وكذلك تنامى داخله الخوف، وكلما نمت معه الموهبة تطاولت الرجفة، “كيف لهذا العالم الذي كان يتنمر بي في صغري أن يتقبل تلكم الموهبة الكبيرة والعطية الربانية، دون نفور أو تعال”، هكذا عاش يفكر دائما الموهوب النابه تفكيرا يتطاول مع الأيام والموهبة التي استطالت لتملأ كل مستطيل أخضر.
وقد كان أن طال عوده واشتدت ساقه فأصبح على مرمى حجر واحد من الحلم الكبير له، بل غلب بياض قلبه هوى نفسه، وأصبح زملكاويا قاسيا في زملكاويته، وأصبح عصبيا في حبه للكيان الأبيض وكأنما قُد مع علم الفرسان من لحاء شجرة واحدة وارفة الظل طيبة الأصل، لكن يبدو أن الخوف القديم كان حاضرا مع الحلم خطوة بخطوة فتلقفته ألسنة الطاعنين ورصدته أعين المتنمرين، فكان على قدر موهبته موصوما بالوجع الذي لابد منه.
لا يمكن أن يتخيل إنسان ما لاقاه شيكابالا من هجوم وتنمر وتصيد بعد تألق لا ذنب له فيه مع الزمالك، بل امتد حد الأذى إلى ولده وشرفه وعرضه وأهل بيته، بل زاد الطين بلة بأن سقطت على الروح مشاهد منفرة بعد لقاء القرن المشهود، طالعتها وطالعها غيري، كان يظهر فيها “كلب أسود” يرتدي ثياب الزمالك، كمحاولة رمزية من مارقين سفلة لسب شيكابالا والنيل من كرامته.
ولهؤلاء أقول، إنك عزيزي البشري معلق بجناح الرحمن حتى وأنت بين جنبات بيتك، أو وأنت مشمول بقوة بدنك، أو مغتر بانتباه عقلك أو مستند لصفاء روحك الحالي، وحتى وأنت منتش بالفوز الذي حققه فريقك، لكنك ربما ستطرد من تلك الرحمات، عاجلا أو آجلا طالما أطلقت لسانك بالسوء ونعت غيرك بالقبح واستسهلت الخوض في العرض واستحللت التنابز بالألقاب.
ولعل ما ساق إليّ حديث شيكابالا، واقعة لاعب الأهلي ياسر إبراهيم، الذي ظهر في فيديو يعتدي فيه على أحدهم، فدافعت عنه الغالبية، تحيي فيه الحمية والرجولة، إذ دافع كملك، ونبيل، عن عرض زوجته الذي خاض فيه المشجع خوضا لا يمكن السكوت عليه، وسبه سبابا لا يمكن التراجع عن الرد فيه، فجاءت القبضات الياسرية بقوة لا مثيل عليها، وانطلقت الشتائم لا راد لها.
لكن العجب أن الأهلاوية أو بعضهم – وهو ما يزيد بالضرورة عن مشجع واحد كحالة ياسر إبراهيم – خاضوا في كل شيء يتعلق باللاعب محمود عبد الرازق شيكابالا، وأنا لست مثاليا تماما حينما أنتقد الأمر، بل إني منحاز كذلك فوق تلك المحاولة الأخلاقية، للأهلي وأمجاده، ألا تنجرف ألسنة مشجعيه كلهم أو بعضهم، وهو من هو – الأهلي – بتاريخه وعراقته، إلى وحل السفه الوضيع.. فشيكابالا الذي أحبه، شيكابالا الذي نحبه جميعا، لم يمت بعد، ولن يموت أبدا.