القول المأثور (حديثاً) في الإنجليزية يوصي بالتالي: Fake it till you make it، ما يمكن ترجمته على هذا النحو: اصطنعها حتى تحققها، وهو يشبه (أو لعله مستوحى من) نصيحة (مستوحاة بدورها على الأرجح من تجليات علم النفس في بواكير ذيوع صيته جماهيرياً) ظلت شائعة على سبيل الدعابة تفيد بأن من الجيد أن يقف الواحد أمام المرآة ويردد ما يدحض العقدة النفسية التي يعاني منها، فإذا كان أحدهم يشعر بعقدة من القصر الشديد لقامته فعلاج عقدته أن يواجه المرآة كل صباح ويبدأ يومه مخاطباً نفسه: أنا لست قصير القامة بل بالغ الطول.
ولأنه لا دعابة من غير مبالغة، كان لا بد من أن تكون المفارقة على نحو ما نرى مع حالة تضاد واضحة بين فرط الطول وشدة القصر. ولكن حتى إزاء حالة معقدة كتلك، يمكن بالفعل أن تنجح حيلة الإيحاء الذاتي، ليس بالضرورة على ذات الشاكلة التي توصي بها الدعابة حرفياً وإنما عبر حِيَل تعويضية عديدة لا تقتضي من قصير مخاطبة نفسه أمام المرآة كل صباح بكذبة فادحة.
كثيراً ما نكذب على الآخرين لسبب أو لآخر ثم نصدّق كذباتنا دون أن نكون مضطرين بضغط من عقدة نفسية عميقة أو للنجاة من خطر عظيم وشيك. نصدّق كذبتنا على الأرجح عندما تعجبنا الكذبة، أو بالأحرى عندما يعجبنا الأثر العظيم الذي تحققه الكذبة على الآخرين خاصة فيما يتعلّق بقبولهم لنا على أي صعيد. الأدهى ليس عندما نصدق كذباتنا عمداً ونحن – على سبيل المثال – بصدد تطبيق حيلة الإيحاء الذاتي سابقة الذكر لعلاج عقدة ما، وإنما حينما تنطلي علينا كذباتنا بصورة تلقائية تماماً كما انطلت على الآخرين الذين توجهنا إليهم بالكذب لهذا السبب أو ذاك.
انطلاء كذباتنا علينا هو خير عندما لا يتسبّب ذلك في أذى لأحد ولا يعود علينا بضرر من أي قبيل، وهو شر عندما يكون الحال عكس ذلك. سهل جداً الحكم، أليس كذلك؟ ولكن مهلاً، ما هو الخير؟ وأين يقبع الشر؟ وهل الحدود الفاصلة بين الاثنين واضحة على أية حال؟ تلك هي الأسئلة التي تتجاوز خطورتها مشكلة كذباتنا التي تنطلي علينا وعلى الآخرين، وهي الأسئلة التي من الحكمة التريّث طويلاً قبل أية مجازفة بإلقاء إجابة حاسمة عليها من أي قبيل.
في كتاب How to Lie with Statistics لداريل هوف Darrell Huff، الترجمة العربية بعنوان “كيف تكذب بالإحصائيات” عن دار بوك مانيا بالقاهرة سنة 2022، يقول المؤلف في بداية الفصل الثامن: “ذات مرة وقع أحد الأشخاص في كثير من المتاعب لاكتشاف إذا ما كان المدخنون يحصلون على تقديرات أقل في الكليات مقارنةً بغير المدخنين. واتضح أن هذا صحيح. وأسعد ذلك الكثير من الأشخاص، ومنذ ذلك الحين وهم يسلِّطون اهتماماً كبيراً عليه. وسيتضح أن الطريق إلى التقديرات الجيدة يتمثّل في الإقلاع عن التدخين؛ وكنوع من المبالغة المنطقية في الاستنتاج، اعتبروا أن التدخين يجعل العقول بليدة. أعتقد أن هذه الدراسة أجريت على نحو صحيح؛ فالعينة كبيرة على نحو كاف، واختيرت بنزاهة وبدقة، والارتباط له دلالة كبيرة، وهكذا. إنها مغالطة قديمة، لكنها تميل بقوة إلى الظهور في الإحصائيات؛ حيث تتخفَّى وراء الكثير من الأرقام المثيرة للإعجاب. إنها المغالطة التي تقول إذا كانت (قيمة) “ب” تتبع “أ” فإن “أ” سبب “ب””.
يواصل هوف: “افتُرِض دون مبرر أنه نظراً لارتباط التدخين بالتقديرات المنخفضة، فإن التدخين يسبّب التقديرات المنخفضة. ألا يمكن أن يكون العكس هو الصحيح؟ فربما تقود الدرجات المنخفضة الطلاب إلى التبغ بدلاً من احتساء الخمر. وعندما تمعن النظر تجد أن هذا الاستنتاج محتمل أيضاً مثل الاحتمال الآخر، ومدعوم أيضاً بدليل. لكن هذا ليس مُرضياً على نحو كافٍ للترويج له. ورغم ذلك، يوجد احتمال أكبر لأنْ يكون كلا الأمرين غير ناجم عن الآخر، وإنما هما نتاج عامل ثالث. هل من الممكن أن يتمثل ذلك العامل في أن الأشخاص الاجتماعيين الذين لا يأخذون الكُتب بجدية يزيد احتمال ميلهم إلى التدخين؟ أم أنه يوجد دليل في حقيقة أن أحد الأشخاص كوَّن ارتباطاً بين الشخصية الانبساطية والتقديرات المنخفضة، وهذه علاقة أكثر قرباً على ما يبدو من تلك العلاقة الموجودة بين التقديرات والذكاء؟ قد يُدخِّن الانبساطيون أكثر من الانطوائيين. الفكرة أنه عندما يوجد الكثير من التفسيرات المنطقية، لا يحق لك اختيار ما يناسب ذوقك منها والإصرار عليه. لكن كثيراً من الناس يفعلون ذلك”.
داريل هوف معني في الكتاب بدراسة استغلال الإحصائيات لترويج كذبة ما لغرض ما، وربما بصورة أشمل يركز المؤلف الأمريكي في كتابه على الدور الذي تضطلع به الإحصائيات في ترويج الكذب حتى عندما يحدث ذلك دون تعمّد (بـنزاهة) لدراسة تأثير قضية ما على حياة الناس في أي من أوجهها. لكن عمل هوف الأكثر جرأة وإثارة للجدل هو ذلك الذي نهض به كناشط متحيز للتدخين Tobacco Lobbyist، ليس بالضرورة من باب حب التدخين ولكن مؤكداً من خلال كره الكذب (المتعمد أو البريء) عبر الاحصائيات، وقد يقدح مخالفو وخصوم السيد هوف في نواياه على اعتبار أنه كان يستفيد مادياً من عمالقة صناعة التبغ الذين موّلوا كتاباته التي تنافح عن التدخين في مواجهة “الكذبات” التي تتذرّع برصانة ونزاهة العلم.
مهما يكن، وبعيداً عن خصوصية تعامل داريل هوف مع مشكلة كذب الإحصائيات تحديداً، فإن الأجدر بالانتباه في مقامنا هذا ضمن ما في المقتطفات السابقة عن كتابه هو قوله: “الفكرة أنه عندما يوجد الكثير من التفسيرات المنطقية، لا يحق لك اختيار ما يناسب ذوقك منها والإصرار عليه. لكن كثيراً من الناس يفعلون ذلك”. هذا أحد الأسباب التي تدفعنا إلى تصديق الكذب عموماً وكذباتنا بصفة خاصة، فنحن ننتقي من بين أكثر من تفسير منطقي ما يناسب ذوقنا/عاطفتنا/مبادئنا/مصلحتنا وغير ذلك. هوف يرى أنه لا يحق لنا أن نفعل ذلك، لكن كما رأينا من قبل تكمن المشكلة فيما هو أشد تعقيداً، فالسؤال ليس فقط: من يملك الحقيقة؟ أو: أين تقبع الحقيقة؟ وإنما يتجاوز ذلك إلى قضايا أكثر إشكالية وزئبقية تجسدها أسئلة من قبيل: ما هي الحقيقة؟ أو: هل الحقيقة ثابتة باستمرار؟ أو حتى صيغة استنكارية في جرأة: أليس للحقيقة أكثر من وجه في الوقت نفسه؟
بعيداً عن المجازفة بأية إجابة قاطعة على أي من هذه الأسئلة، وبمنأى كذلك من تعقيدات المزيد من النبش في فلسفة الحقيقة، على الأقل في هذا المقام، يبدو أننا نصدّق كذباتنا عندما لا نجد من يكذب علينا بما نحب سماعه فنكذب على أنفسنا ونصدّق الكذبة، وقد نصدّق كذباتنا لأننا لا نحب أن نُضبط متلبسين بالكذب عندما لا يكون ثمة مفرّ لنا من أن نكذب لسبب أو لآخر.
بمرورٍ جدّ عابر على لمحة من فلسفة الحقيقة، وإذا جاز أن نمرّر اتفاقاً – جدلياً على الأقل – بخصوص أن للحقيقة أكثر من نسخة وأكثر من وجه ضمن النسخة نفسها، فإننا نصدق كذباتنا أيضاً لأننا كثيراً ما لا نقوى على مواجهة وجه الحقيقة القاسي فنتبنّى في مقام بعينه وجهها الأكثر سماحة وعذوبة حتى إذا كنّا في قرارة أنفسنا نعلم أنه ليس الوجه الأحرى بالتبنّي في ذلك المقام.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل ([email protected])