عمرو منير دهب
“إن ترويج الخرافات أمر ممتع، ولقد انتهيت إلى فعل ذلك بمحض الصدفة: عندما أجريت أبحاثاً لتحليل تقارير المستهلكين اكتشفت أن كل ما ظننته حقيقياً كان خزعبلات”.
تلك هي بداية مقدمة جون ستوسل John Stossel مقدّم البرامج التلفزيونية الأمريكي لكتاب Myths, Lies and Downright Stupidity: Get Out the Shovel – Why Everything You Know is Wrong، الصادر في ترجمته العربية عن دار العبيكان بالرياض سنة 2009 بعنوان “خرافات وأكاذيب وغباء محض: نقِّب عن الحقيقة، إذ كل ما تعرفه خطأ”. يواصل ستوسل: “من جهة أخرى لا تعني “الخرافة” بالضرورة “الكذبة”، إذ قد تعني أيضاً “اعتقاداً شعبياً” أو “تقليداً موروثاً”. أحياناً عندما ننقب في الخرافات ونزيل منها الخزعبلات نجد جوهراً حقيقياً. وكثيراً ما يكشف التنقيب عن أكاذيب وغباء”.
إذا كنّا نقول بأنه ليس هناك صدق مطلق، فإن من الإجحاف أن نزعم أن ثمة كذباً مطلقاً، ولكننا عادة نحب أن نضع الناس والأشياء على أحد طرفي نقيض من الصفات وما يستتبعها من المشاعر، فكما أن الأسهل لأفكارنا أن تسير في اتجاه محدّد على أي صعيد فإن مشاعرنا لا تفضّل كذلك التشتّت بين الاتجاهات مع الناس وفي كل ما يحيط بحياتنا.
كتاب جون ستوسل رائع في بيان حجم ما ينطلي علينا من خرافات/مغالطات نظنها حقائق، سواء أكانت تلك الخرافة/المغالطة (Myth) يتم ترويجها مع سبق إصرار على تزوير الحقيقة فتستحق أن تسمّى كذبة، أو تجري إشاعتها دون تعمّد الكذب فتغدو مجرد فكرة مغلوطة، ولا يعني حسن النية المتعلق بالأفكار المغلوطة أن أثرها لا يكون ماحقاً في كثير من الأحوال. الكتاب حصيلة جهود منتجي ومحرري برنامج 20/20 في شبكة البث الأمريكية إيه بي سي ABC ، إضافة إلى أفراد آخرين ومجموعات عمل أخرى من بينهم طلاب جامعات، ومن الجميل أن يقول ستوسل في مقدمة الكتاب ثم في كلمة “شكر وعرفان” بعدها، ساخراً في قدر من الجدية: “أنا ممتن لهم جميعاً ويسعدني أن أجني ثمار عملهم وأشارككم فيها”، “أشكرهم جميعاً على السماح لي بسرقة ثمار عملهم”. عمرو منير دهب
أحب ألّا أفوّت فرصة السخرية من عبارتَي ستوسل في كلمة شكره وعرفانه: “أشكر الله على مساعدة بوب سيستر، ريك بلات وآخرين في موقع www.intheclassroom.org في إظهار الحقائق لطلاب الثانوية. أشكر طلاب الجامعات الذين ساعدوا في التنقيب عن الكثير من الحقائق في هذا الكتاب”، ومكمن السخرية هو كلمة “الحقائق” التي ستتكرر بصيغة المفرد (حقيقة) تحت كلمة “خرافة” في إطار مستطيل – يختصر مضموناً لكل صفحتين أو أكثر على امتداد فصول الكتاب – لتحديد الخرافة/المغالطة الشائعة ونقيضها الذي يُفترَض من وجهة نظر المؤلف وفرق عمله أنه الحقيقة. وبرغم أن الكتاب كما أشرنا بالغ القيمة في بيان هشاشة وفساد كثير من الأفكار التي تنزل لدى الناس منازل البديهيات المسلّم بها، فإن قيمته الكبرى عندي هو بيان أنه ليس ثمة حقيقة مطلقة مهما يكن حجم الأدلة التي تبدو مقنعة من ورائها ومهما تكن أعداد المسلّمين بها. وعليه، فإن ما يروّج له الكتاب على أنه حقيقة/حقائق إنما هو خرافة/مغالطة في المقابل، ليس فقط لدى أولئك الذين يحاول الكتاب دحض دعاواهم وإنما أيضاً من وجهة نظر باحث يظهر مستقبلاً فيؤكد أن “الحقيقة” ليست أيّاً مما سبق وإنما تكمن في اكتشاف جديد من شأنه أن يطيح بكل “الخرافات” السابقة، ليتبيّن بعدها أن الاكتشاف الجديد ليس سوى “فرضية” قابلة بدورها للدحض، وهكذا دواليك.
مهما يكن، فإن ما نودّ الوقوف عنده من كتاب جون ستوسل في هذا المقام هذا هو العبارة التالية التي وردت في ما اقتطفناه بدايةً عن مقدمة الكتاب: “أحياناً عندما ننقب في الخرافات ونزيل منها الخزعبلات نجد جوهراً حقيقياً”. ومهما يكن المراد بالعبارة كما وردت، فإنها إشارة – وبغض النظر عن العبارة التي تلتها في المقدمة: وكثيراً ما يكشف التنقيب عن أكاذيب وغباء – إلى أنه لا كذب مطلقاً، تماماً مثلما أنه لا صدق مطلقاً.
لن نقول بأنه ليست كل كذبة شرّاً وأن الخير قد يتجلّى من خلال كذبة أحياناً، فحديث الخير والشر كما أشرنا مراراً أكثر تعقيداً من حيث نسبية الحكم عليه بما يتجاوز التعقيد الكامن للسبب ذاته في مفارقة الصدق والكذب، وهو ما دعاني إلى القول في “طريق الحكمة السريع” بأن “الخير والشر: كثيراً ما يُشكِلان عليّ إلى درجة أنْ أخال أنهما يتبادلان الأدوار”. المهم هنا الانتباه إلى أن كذبة ما، مهما تكن كبيرة ومؤلمة، لا ينبغي أن تحجب عن متلقّيها ما قد تتضمنه من صدق/حقيقة في ثناياها. من حق مَن يتلقّى الكذبة أن ينزعج منها ومن قائلها، ومن حقه أن يرفضها جملة تبعاً لذلك، لكن بعض التأنيّ في قراءة الكذبة وتحليلها قد يكشف من الصدق (ليس صدق النوايا بالضرورة) ما قد يعود بالفائدة على متلقي الكذبة حتى إذا لم يكن ذلك مقصد قائلها ابتداءً وحتى إذا كانت “الحقيقة” المكنونة في ثنايا الكذبة تخصّ سياقاً آخر – ذا صلة قريبة أو بعيدة – بالهدف المرجوّ من الكذبة.
عندما يكذب أحدهم، أو حتى حينما يكون بصدد حياكة مكيدة، فإن ذلك لا يعني أن كل ما يقوله كذب، فكثير من أحاسيسه النبيلة – على سبيل المثال مع حالة مراوغة في المشاعر – قد يكون صادقاً ولا يكون ثمة ما يقدح في تلك المشاعر الصادقة سوى أنها تشكّل غلافاً لكذبة نفذت إلى متلقّيها عبر ذلك الغلاف النبيل فآلمته.
ستصعّب المحاكمة الأخلاقية البتَّ في الحالة الأخيرة المأخوذة على سبيل المثال للمراوغة/الكذب في المشاعر، فمن حق من تُوجّه إليه كذبة/مكيدة على تلك الشاكلة أن يصف صاحبها بالنفاق عوضاً عن الوقوف بتأثّر أمام مشاعره النبيلة التي تغلّف الكذبة التماساً لعذر يجيز الصفح. ولكن أليس من الحكمة ألّا نفوّت فرصة الوقوف على الحقيقة مهما تكن الظروف، بل بالأخص عندما نشعر بأن الزيف يحدق بنا من كل صوب؟ ما ضير أن نعلم أن من يكذب علينا (أو حتى ينافقنا) لديه الكثير من المشاعر النبيلة تجاهنا، ليس بمنأى من الموضوع الذي يكذب عبره وإنما في لبّ الموضوع ذاته؟ ألا يبدو من الخير أن نعرف جوانب الحقيقة/الصدق في أولئك الذين يرموننا بسهام كذباتهم على تباين دوافعهم إلى الكذب؟ ولنفعل بعدها ما نشاء بمشاعرنا تجاههم، فمسار العلاقة مع من كذب علينا تحت أية ذريعة منوط على كل حال بقدرتنا على الغفران/النسيان أكثر مما هو منوط بمهارتنا في اكتشاف كذبة وقعت على أية حال.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]