إذا كانت الحقيقة مسألة نسبية كما ظللنا نؤكد في هذا السياق، فلا غرو أن نكون جميعاً ممثلين، وذلك ليس وفقا ما يرى بعضنا بعضاً فحسب وإنما كما يمكن أن نرى أنفسنا ونحن نغيّر مواقفنا ومشاعرنا بين الحين والآخر رجوعاً إلى مختلف المؤثرات من حولنا.
نمثّل أدوارنا التي هبطنا من أجلها إلى الحياة، لكن الشخصية التي يضطلع كلٌّ منّا بأداء دورها ليست ثابتة بحال بل متغيرة إلى ما قد يصل إلى التناقض في تبنّى الأفكار وحتى المشاعر في كثير من الحالات. إلى ذلك، يبلغ التغيّر مبالغ شديدة الحدّة بارتدادنا من الفكرة أو العاطفة إلى نقيض أيٍّ منهما والعكس، وذلك بحيث نبدو بالغي التذبذب أحياناً، خاصة عندما نتجاوز العنوان العريض للفكرة والسمة العامة للعاطفة إلى التفاصيل الدقيقة لكل فكرة وأية عاطفة.
تمثيلنا مسألة قد تبدو غريبة، لكنها تزداد واقعية كلما أدركنا أن الحقيقة قضية نسبية ومراوغة إلى أقصى الحدود الممكن تخيلها، فنحن لا نكاد نستقر على ملامح الشخصية التي نجسدها حتى يطرأ مؤثر يدفع تلك الملامح إلى التغيُّر. وإذا كان كثير من تلك المؤثرات يبدو خارجياً صرفاً، فإن المؤثرات التي تنبع من دواخلنا ليست قليلة بحال، هذا فضلاً عن أن الحكم على أي من المؤثرات بكونه داخلياً أم خارجياً أم خليطاً بين الاثنين مسألة متشابكة ومعقدة يتداخل فيها ما هو عقلي مع ما هو نفسي بما لا يبدو مبشّراً بنتيجة محسومة في الحكم.
يمكننا إلقاء نظرة عابرة على ذلك التشابك والتعقيد في إدراك الحقيقة مع الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل Bertrand Russell من خلال كتابه The Analysis of Mind، الترجمة العربية بعنوان “تحليل العقل” عن دار التكوين بدمشق سنة 2016.
في المحاضرة الثالثة عشرة من الكتاب بعنوان “الصحة والزيف” يقول راسل: “تعريف الصحة والزيف، وهو موضوعنا اليوم، يقع تماماً خارج موضوعنا العام، أي خارج تحليل العقل، فمن موقف سيكولوجي، يمكن أن تكون هناك أنواع مختلفة للاعتقاد، ودرجات مختلفة لليقين، لكن لا يمكن أن تكون هناك أي وسيلة سيكولوجية خالصة للتمييز بين المعتقدات الصحيحة والمعتقدات الزائفة، فالمعتقد يعد صحيحاً أو زائفاً بحسب علاقته مع الحقيقة التي تقع خارج تجربة الشخص الذي يحمل ذلك الاعتقاد. تعتمد الصحة والزيف، إلا في حالة المعتقدات المتعلقة بأذهاننا، على العلاقات بين الوقائع الذهنية والأشياء الخارجية، وذلك ما ينقلنا بعيداً عن تحليل الوقائع الذهنية كما هي بذاتها”.
يواصل الفيلسوف البريطاني الكبير: “مع ذلك، يمكننا بصعوبة أن نتجنب النظر في الصحيح والزائف، إذ نود الاعتقاد أن معتقداتنا، أحياناً على الأقل، تنتج لنا المعرفة وليس لمعتقد أن ينتج معرفة ما لم يكن صحيحاً. السؤال: هل عقولنا هي أدوات للمعرفة وإذا كان الأمر كذلك، بأي حاسة يكون العقل حيوياً جداً بحيث أن أي تحليل مقترح له لا بد من تفحصه بالارتباط بهذا السؤال، لكن أن نتجاهل هذا السؤال سيكون أشبه بوصف آلة توقيت دون النظر إلى دقتها كحافظة للزمن أو مقياس حرارة دون ذكر الحقيقة الأساسية وهو أنه يقيس حرارة الجو”.
مع ذلك التعقيد، تبدو الحقيقة بأي من المعايير غاية بعيدة المنال، أما الحقيقة المطلقة في عالمنا فهي الغاية المستحيلة لا ريب. يقول راسل في موضع لاحق: “هل يمكننا أن نكتشف أي مجموعة من المعتقدات لا يتبين أي خطأ فيها أو ما هو الاختبار الذي يمكّننا دائماً، حين يطبق، من أن نميز بين المعتقدات الصحيحة والزائفة؟ بسؤالنا هكذا، بشكل عام ومجرد، يجب أن يكون الجواب بالنفي. إذ حتى الآن لم تُكتشف طريقة تقضي كلياً على خطر الوقوع في الخطأ وليس هناك من معيار معصوم عن الخطأ. وإن كنا نعتقد أننا وجدنا معياراً، فهذا الاعتقاد نفسه قد يكون خاطئاً، وعلينا أن نسلم بالمسألة، إذا ما حاولنا أن نختبر المعيار بتطبيق المعيار على ذاته. لكن رغم أن فكرة المعيار المطلق فكرة وهمية، يمكن أن تكون هناك معايير نسبية تزيد من احتمالية الصحة. إن الحس العام والعلم يتعقدان بأنه يوجد شيء كهذا”.
سنكتفي من محاضرة راسل القيمة حول الصحة والزيف بالاقتطاف التالي الذي يجيء مباشرة قبل كلماته السابقة: “ثمة مشاكل صعبة كثيرة تنشأ فيما يتعلق بالتحقق من المعتقدات. إننا نعتقد بأشياء مختلفة، وبينما نعتقد بها نفكر أننا نعرفها. لكن يتبين أحياناً أننا مخطئون أو على أية حال نتوصل للتفكير بأننا كنا كذلك. ولا بد أن نكون مخطئين إما في رأينا السابق أو في اعترافنا اللاحق بالخطأ”.
العبارة الأخيرة ذات دلالة عظيمة في سياقنا هذا، فنحن إزاء الحقيقة “لا بد أن نكون مخطئين”، وإذا كان الفيلسوف الكبير يضع احتمالين: “إما في رأينا السابق أو في اعترافنا اللاحق بالخطأ”، فقد رأينا أننا إزاء الحقيقة لا ننتقل فقط من “خطأ سابق” إلى “صواب لاحق” وإنما نظل في حالة تأرجح بين المواقف والمشاعر متوهّمين باستمرار أن موقفنا وعاطفتنا “الآن” هما الحقيقة.
في مواجهة “حقيقة” الحقيقة التي تتمتع بمراوغة ليست محدودة ولا تبدو نهائية، لا بد أن نحتفي ببراعتنا في التمثيل في الحياة، فنحن أبطال عرض مسرحي مرتجل لا تتخلل فصوله استراحة من أي قبيل. وفضلاً عن كونه مرتجلاً، فإن أداءنا بالغ الحدّة في انتقالاته من حالة إلى أخرى على المستويين النفسي والعقلي، وذلك حتى الرمق الأخير الذي يحين أوانه مع خواتيم دورنا “الحالي” في العرض وليس بإسدال الستار، فمسرحية الحقيقة مفتوحة فيما يبدو على اللانهاية التي تبدو بدورها كما لو كانت دوراناً في حلقة مفرغة.