أحمد عنتر يكتب: أبي كان المختار

اختار أبي أن يقضي عمرا بين أبطال النصر العظيم في أكتوبر 73، واحدا منهم، يشكل بينهم عقدا كاملا من الحكمة والشدة والحسم والتاريخ، وأنا قضيت وقتا ليس بقليل، بين دفاتر تلك التجربة المجيدة، أجتر الحكايات من فمه المكدود من شقاء الرحلة، المرتعش من فرط الفخر والبهاء وهو يحكي.

صاحبت أبي طوال عمره ولم يكن – الرجل الكبير – بخيلا في حكيه، بل كان يثري روحي بالحكايات كلما تسنى له، كان شفيفا لا يترك التفاصيل، رهيفا لكن لا تغلبه الدموع، رغم أثر القصص في نفسه، إذ كان يفرط في سرد تفاصيل الموت والتضحية، وكيف قضى صديقه رفعت إسكندر “الله يقدس روحه” (هكذا يقول)، نحبه على صدره، بينما تلتمع عيني الأخير بالظفر وفرحة العبور المشهود.

أبي كان نموذجا للبطل في نظري، نموذجا لا يهرأ ولا يهتز، كانت رجولته ظاهرة لا تغيب، وقت أن كان يحكي بصدق مؤثر، كيف واجه المستحيل مع رفاقه الذين لم ينسى منهم اسما واحدا، ولا موتة واحدة، إذ كان ثابت الجنان، ملتحفا بالصبر والتثبت والإيمان، حينما يذكر واقعة استشهاد لأحد رفقائه.. كان يقول إنهم كانوا أقرب إليه من الشقيق، تشاركوا الحياة والموت معا، الصيام والعيد معا، ذل أيام الهزيمة وآلامها، وحلاوة النصر وآماله، كما سمع من الرئيس الراحل أنور السادات.

يقول أبي بين حكاياته، إن الشمس التي ظللتهم، قبل النصر أو الشهادة، لم تكن حارقة، إلا للعدو، بينما كانت سلاما على من عبروا جميعا، حتى الأتربة كانت ذاكية الرائحة، طيبة اللمس، بينما كانت أقدام الرجال مليئة بالبأس وقلوبهم عامرة بالتصميم على النصر أو الموت فداء الوطن والعرض.

وكان أبي بينهم، مرتبط بالشمس، حتى في فلسفة الوجود، يكره المغيب، ويخفق قلبه فرحا مع الشروق، وكان بين هذين الوقتين من يوم الحرب، يحلم أن يعمر الأرض إلى حين، يقول إنه لم يشته الموت وقتها ولم يخشه، في الآن نفسه، لكنه كان يمني نفسه بحياة أبيّة تستمر، بعد نفاد الحرب واندثار لهيبها، يفرح فيها مع أبنائه وأحفاده بمكتسبات الانتصار، وقد كان.

ظللت طوال حياتي أخال العظيم الراحل رجلا غير كل الرجال، أراه – يقظة وحلما – بزي الحرب مهيبا شامخا، يمسك في قبضتيه برمال الأرض، يخطو بثقة وثبات على قطعة بلادنا المستردة، رمزا جليا لامعا كالصخر في وهج الشمس.. كنت أراه رغم تلك الهيبة بادي الطيبة، عريق الملمح، بشوش الوجه، حاضر الطرفة، لا يلين أبدا وقت الصعاب ولا يمل من تقديم النصح ونثر الخير، أينما حل.

أبي كان المختار لي، كنت أعتبره أسد التجربة، ورفيق العمر، وعندما خرج من الدنيا أحسست بأنني خرجت معه، لمست معه تراب القبر، انتهيت.. لكني عندما نمت واستيقظت، يوم وفاته، بعد 40 عاما من انتصاره في سيناء، وجدتني إنسانا بروح أبي، كأني بعثت من فيض حكمته، ومن ثرى حكاياته، وكأني طيف خافت متشبث برائحته ورجولته وعنفوانه وكبريائه، في حياة سريعة مؤقتة، أتعجل فيها العودة إليه في عليين.