في كتابهما “دروس من التاريخ” الصادر عن دار عصير الكتب بالقاهرة سنة 2020، ترجمةً للأصل الإنجليزي The Lessons of History، يقول ويل وإريل ديورنت Will and Ariel Durant : “في بداية علمك بالتاريخ ومجرياته يتأكد لك مدى التغيّر الذي يطرأ على الأكواد الأخلاقية بتغيُّر الزمان والمكان، ممّا يؤكّد عدم أهميّتها وإمكانية إهمالها؛ لأنها قد تصل أحياناً إلى مناقضة بعضها بعضاً. عندما يتّسع علمك تدرك اتّفاق النظم الأخلاقية في جوهرها وعموميتها، ويتأكد لك ضرورتها. تختلف الأكواد الأخلاقية؛ لأنها تتأقلم مع الظروف البيئية والسياق التاريخي. إذا قسمنا التاريخ الاقتصادي إلى مراحل ثلاث: مرحلة الصيد، تليها مرحلة الزراعة، ثم الصناعة… نستطيع التنبّؤ بأن الأكواد الأخلاقية في مرحلة ما ستختلف عن التي تليها”.
ذلك إجمال موفق إلى حد كبير من المؤلفَين حول قواعد Codes الأخلاق التي تتغير بتغيّر المؤثرات التي يمليها كل مكان وزمان ولا تظل ثابتة كما يتوهّم أو يحلم أي مجتمع وهو يحاول الامتثال في طمأنينة للقواعد الأخلاقية التي وضعها وفق نقلة اجتماعية (فرضتها نقلة اقتصادية على سبيل المثال) أو تلك التي ورثها عن الآباء والجدود في حال ظلّ المجتمع على ثبات لأمد طويل من الزمان.
المؤلفان يوجزان ابتداءً تعريفاً بسيطاً للأخلاق في بداية الفصل الذي نقتبس عنه من الكتاب بعنوان “الأخلاق والتاريخ” على هذا النحو: “الأخلاق هي مجموعة القواعد التي يحاول من خلالها المجتمع أن يحض أفراده ومؤسساته على الالتزام بسلوكيّات وتصرّفات متّسقة مع نظام هذا المجتمع وأمنه…”، ومن الجميل أن يورد المؤلفان في قلب ذلك التعريف الجملة الاعتراضية التالية التي تختصر تعريف القانون: “كما أن القانون هو مجموعة القواعد التي من خلالها يحاول أن يجبرهم…”، وبذلك يتضح الفرق بين الأخلاق والقانون بالنسبة لأي مجتمع من خلال المقابلة بين الفعلين “يحضّ” و”يجبر”.
على الرغم من ذلك، فإن سطوة الأخلاق بالنسبة للمجتمع ليست في الغالب أقلّ من سطوة القانون، وذلك بالنظر إلى ما يمكن أن يلقاه فرد يجاهر في وجه مجتمعه بالتمرّد على الأخلاق التي يتواضع عليها ذلك المجتمع، فالعقوبة المعنوية التي يمكن أن يفرضها المجتمع على المتمرّد أخلاقياً من أفراده تتجاوز أحياناً العقوبة المادية التي يمكن أن تفرضها الدولة على المتمرّد تشريعياً على أي من قوانينها. هذا، وتبقى مسألة الامتثال للقوانين وما يجرّه التمرد عليها من عقوبات لعبةً قانونية يمكن الخروج منها بسلام ببعض الحنكة بمساعدة محامٍ بارع على سبيل المثال، بينما يظلّ المجتمع بالغ الانتباه لأية محاولة من أي من أفراده للتملّص من سطوة الأخلاق والأعراف التي لا يحضّ المجتمعُ عليها أولئك الأفرادَ فحسب وإنما يكاد يفرضها عليهم فرضاً.
يمكن أن ننظر إلى الأخلاق بوصفها اختصاراً للثلاثي الشهير “الحق والخير والجمال” الذي ظل قيمة طوباوية ينظّر بخصوصها الفلاسفة ويحضّ عليها دعاة الأخلاق من كل قبيل كلٌّ على طريقته الخاصة. وإذا كنّا قد رأينا في مقام قريب مواقفنا مع مواجهة حقيقة الحق فإن النظر في مواجهة حقيقة الحق والخير والجمال ليست سوى امتداد للمواجهة الأولى طولاً وعرضاً بما يغطّي صعيد المثل والمبادئ تماماً، والمواجهة والحال كتلك لا تسفر في الغالب عن جديد نوعاً بقدر ما تكشف عن حجم التعقيد الذي يطال مواجهة أنفسنا مع حقيقة ما ندّعي الارتقاء إليه في عوالم المثاليات.
نواصل مع الزوجين ويل وإريل ديورنت لنقف على تحديد أكثر ومثال عملي للمراد بتغيّر (نسبية) الأخلاق عبر الزمان: “لنحو خمسة عشر قرناً من الزمن صار هذا الكود الأخلاقي الذي ينصّ على ضرورة السيطرة على الشهوات، والزواج المبكر، ويرفض الطلاق، وتعدد الزوجات، ويحضّ على الإنجاب، هو الكود الأخلاقي السائد في أوروبا المسيحية الكاثوليكية، كما حافظ على نفسه في هذه المنطقة وفي المستعمرات الأوروبية خارج القارة. لقد كان قانوناً صارماً، وأخرج أقوى الشخصيات في التاريخ. بعد ذلك وبصورة تدريجية وبسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع، غيّرت الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا النظام الاقتصادي والكود الأخلاقي الذي يستند إلى هذا النظام الاقتصادي، ثم بدأ يتسارع هذا التغيير وينتشر منها إلى مناطق أخرى، خرج الرجال والنساء والأطفال من منازلهم، وخرجوا على حدود السلطة المرسومة والوحدة التي بنتها الأسرة… لم يعد النضج الاقتصادي (القدرة على تحمّل مسؤولية الأسرة مادياً) يأتي مبكراً، لم يعد الأطفال ثروة استثمارية، تأخر الزواج، وصارت السيطرة على الشهوات قبل الزواج أصعب في تحقيقها، صارت المدن تقدّم لك الأسباب لكيلا تتزوج، لكنها في المقابل توفّر لك كل التساهيل والإغراءات لممارسة الجنس”.
يكمل الزوجان ديورنت: “وفقدت سلطة الأب والأم جذورها الاقتصادية شيئاً فشيئاً مع زيادة الفردية الاقتصادية في ظل الصناعة، لم يعد على الشاب الثائر أن يرضخ لقيود ومراقبة القرية، صار بإمكانه أن يخفي خطاياه وهويّته في زحام المدينة وكثافة سكانها، رفع العلم التجريبي بتقدّمه سلطة الأوراق البحثية على سلطة النصوص الدينية، وبدأ تطوّر الاعتماد على الآلات وميكنة الصناعة والاقتصاد يشير إلى الفلسفات المادية، وصار التعليم يولّد شكوكاً دينية، وفقدت الأكواد الأخلاقية طبيعتها الغيبيّة شيئاً فشيئاً، بدأ الكود الأخلاقي الزراعي الهرِم يحتضر”.
تلك سياحة مختصرة لكن دقيقة في بيان انقلاب تعريف الأخلاق بتأثير التغيرات العملية والاقتصادية وانعكاسها على الواقع بما يفرض واقعاً اجتماعياً جديداً بدوره، لكن ربما كان التعبير الأدق – والحال كتلك – أن الشاب لم يعد يخفي خطاياه وهويّته في زحام المدينة وكثافة سكانها، وإنما أصبح ثمة تعريف جديد للهوية ولم تعد كلمة الخطايا تشير ربما سوى إلى تبنّي الاعتقاد بالخطايا القديمة.
يخبرنا المؤلفان أن التاريخ يقدّم عزاءه لنا “ويذكّرنا أن الأخطاء البشرية تنتشر في كل العصور”، وأن الدعارة كانت علنية “ولا تنقطع من بيوت الدعارة التي أشرفت عليها الدولة الآشورية إلى الملاهي الليلية في مدن غرب أوروبا وأمريكا في أيامنا هذه”، وأنه “طبقاً لشهادة (مارتن) لوثر يخبرنا (ميشيل دي) مونتين أنه في زمانه خرجت الكتابات الأدبية الفاحشة إلى سوق جاهز لاستقبالها”، وأن “الرجال والنساء يقامرون في كل العصور. وفي كل عصر وُجِد الخداع بين الرجال كما وُجِد الفساد في الحكومات… لم يتّبع البشر يوماً الوصايا العشر”.
كل ذلك لا يكشف فقط عن نسبية تعريف الأخلاق من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر، وإنما يشير بصورة موازية إلى أننا نتخيّل أننا نمضي صعداً على طريق الحضارة بينما نحن في الواقع ندور في حلقة مفرغة بحيث نتبنّى اليوم ما كنّا ننكره بالأمس ثم نعود غداً لننكر ما نتبنّاه اليوم.
من الخير والحق والجمال إذن أن نكفّ عن التباهي المطلق بتعريفنا الخاص وأن نفتح قلوبنا وعقولنا للآخرين وهم يُدْلُون بمذاهبهم في تعريف الحق والخير والجمال.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])