عمرو منير دهب
رأينَا أننا نكذب ونصدّق كذباتنا وأن الصدق قد يتخلل كذبة ما، فالأمر إذن ليس صدقاً مطلقاً أو كذباً مطلقاً، وذلك بتجاوز التحدّي العميق الكامن في تعريف الصدق والكذب والتحدّي الأعمق الكامن بدوره في النزول بكل تلك المعاني المتداخلة والمتشابكة من سماوات التنظير إلى الواقع وأرضه التي ليست راسخة بحال.
رأينَا كذلك أننا جميعاً ممثلون، نمثل أدوارنا التي هبطنا من أجلها إلى الحياة، ورأينا أن تلك الأدوار ليس ثابتة بل متغيرة في إطار الشخصية الواحدة التي نجسّدها إلى حدّ التناقض الذي لا يكاد يسلم منه أيٌّ منّا بدرجات وأشكال متباينة.
التمثيل إذن مصطلح آخر يصلح لأن يكون مرادفاً للكذب، مصطلح قد يبدو مخفّفاً ومستساغاً في مواقف بعينها، وقد يبدو في مواقف أخرى منبوذاً. ولكن بالتوغل في النبش عن المصطلحات والتعابير الأخرى التي تصلح لأن تكون مرادفة للكذب يتبيّن ظلمنا لتلك الكلمة بحيث تبدو بريئة في كثير من الأحيان مما نرميها به من التداعيات بالغة الإشانة، فنحن نمارس الفعل نفسه تقريباً ثم نتستّر خلف نعوت وتعابير أخرى مثل المجاملة، التجميل، التجمّل، وهكذا وصولاً إلى تعابير تتضمن قدراً أعمق من العقلانية مثل “اختلاف وجهات النظر” إشارة إلى الآراء المختلفة والمتناقضة التي يُعدّ بعضها في نظر الطرف المقابل ليس كذباً فقط وإنما زيفاً أو باطلاً في كثير من الأحيان.
ليس عملياً فحسب، وإنما على النطاق النظري أيضاً لا توجد حقيقة واحدة أو صواب واحد إلا لدى من لا يحسنون النظر سوى إلى أنفسهم. الحقائق تتجاوز الحصر، بحيث يبدو كل فعل أو سلوك للبعض كما لو كان يعبّر عن حقيقة مطلقة أو على الأقل صواب محتمل، في حين يبدو الفعل نفسه بصورة موازية تعبيراً عن زيف/خداع/باطل من قبيل ما بالنسبة لآخرين. وقد عرضنا في حديث مفصّل لنسخة كلٍّ منّا من الحقيقة، بحيث رأينا أن عدد نسخ الحقيقة يكاد يكون بلا نهاية انعكاساً لتغيّر وجهات النظر وتغيّر المشاعر بتغيّر المؤثرات وليس دلالة على الكذب أو الزيف في كل الأحوال. وعليه، فإن هذا الاختلاف/التضاد في وجهات النظر وتجليات المشاعر يكاد يكون الأجدر بأن يُنعت بكونه الحقيقة المطلقة الوحيدة في الحياة/الوجود إذا كان لا بد من البحث عن حقيقة مطلقة والظفر بها.
في كتاب “كشف الكذب” الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت عام 2012، ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية بعنوان Lie Catcher، يقول المؤلف ديفيد كريغ David Craig في بداية القسم الأول من الكتاب تحت عنوان فهم الكذب/طبيعة الكذب: “كذب، تلفيق، زيف، ابتداع صريح، تأليف؛ حتى إنني سمعت مرشحاً أمريكياً رئاسياً يصف بتهذيب الكذب بأنه إساءة تعبير، لكنني لست واثقاً بأنها العبارة المناسبة؛ لعلها كانت كذبة. على أي حال، وبصرف النظر عن الاسم أو السياق الذي يحدث فيه، فكل واحد منا لديه رأي حول طبيعة الكذب، وهناك عدد كبير من التوصيفات المختلفة لفعل الكذب… معظم الناس يتفقون على أن الكذب تصرف منحرف، وهذا المضمون السلبي هو الذي يدفع معظم الناس للقول – عندما يُسألون – إنهم نادراً ما يكذبون؛ غير أن هذا غير صحيح في جميع الحالات تقريباً”.
يعرض بعدها كريغ بضع إحصائيات – بعضها من مؤسسات أكاديمية مرموقة كجامعة ماساتشوستس – تشير إلى عدد المرات التي يكذب فيها الفرد في المجتمع، ثم يصف نتيجة الإحصائيات كما يلي: “هذه الإحصائيات مدهشة بالطبع، بل تكاد تكون غير قابلة للتصديق”، وهي بالفعل كذلك إذا عرفنا أن دراسة روبرت فيلدمان من جامعة ماساتشوستس تشير إلى “أن 60% من الأشخاص الذين شاركوا في بحثه كذبوا مرة واحدة على الأقل كل عشر دقائق في أثناء أحاديثهم”.
ولأن كتاب ديفيد كريغ يُعنى أساساً بكشف الكذب، فإنه لا يخوض عميقاً في فلسفة الكذب أو إعادة تعريفه في ظلال فلسفة الحياة أو تفسير الوجود لدى أيٍ من الناس، بقدر ما يستغرق في التنقيب عمّا يروج على أنه كذب وذلك تحديداً من خلال بيان مؤشراته وأسبابه.
غير أن المرور على دوافع الكذب كما يعرض لها المؤلف تُبيّن بالفعل أن الكذب بقدر ما يراه معظم الناس “تصرفاً منحرفاً” فإنه يبدو ضرورياً أو – بتعبير أكثر دقة – أمراً لا مفرّ من ارتكابه، هذا فضلاً عن البواعث النبيلة – أو على الأقل الدوافع غير المؤذية – التي تتوارى خلف كثير مما يراه الناس كذبات فادحة، والواقع أن العواقب كان من شأنها أن تغدو أكثر فداحة لو أن مطلقي تلك الكذبات قالوا الحقيقة بدلاً من أن يكذبوا.
يصنّف الكتاب الكذب بصفة عامين إلى قسمين عريضين: الكذب المركِّز على الذات والكذب المركِّز على الآخر. وبغض النظر عن التداخل بين القسمين، فإن المؤلف يرى أن الكذب المركّز على الآخر “يقال عادة بنيّة حسنة من قبل المخادع (وصف أكثر دقة للكذاب). وهو يوصَف أحياناً بالكذب الأبيض”. يُسهب كريغ في وصف ذلك النوع من الكذب بقوله: “في الواقع، يسمح المجتمع، بل ويتوقّع، هذا النوع من الكذب كجزء من تفاعلنا الإنساني الطبيعي. إن هذا النوع من الكذب يمثل زيت التشحيم الذي يحافظ على دوران عجلات التفاعل الاجتماعي بنعومة وسلاسة، من خلال تجنّب أي احتكاك غير ضروري. ولكن، على الرغم من النية الطيبة الاعتيادية التي تدفع المرء لقول كذبة مركِّزة على الآخر، فإنها تبقى كذبة من دون أدنى شك، لأنها تُقال عمداً بقصد حجب الحقيقة عن شخص آخر، ومع ذلك، فمن الصعب انتقاد شخص يستخدم هذا النوع من الكذب، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ إننا نتوقع من معظم الناس فعل الشيء نفسه”.
وعند استعراض دوافع الكذب المركّز على الذات كما يوردها المؤلف، تتبيّن صعوبة التفرقة بين ما هو حميد وما هو خبيث من دوافع الكذب وتجلياته، ومن ثمة تتجلّى صعوبة إمكانية الحكم على أي من أشكال الكذب بكونه صالحاً للتمرير الاجتماعي. ولكي نقف على تلك الصعوبة في التفرقة بين المؤذي وغير المؤذي من أنواع الكذب، من الجيد أن نستعرض الدوافع الأربعة الرئيسية التي يوردها كريغ للكذب المركِّز على الذات وهي: تجنّب الإحراج، ترك انطباع إيجابي، كسب فائدة، تجنّب العقاب. من السهل ضمن هذه الدوافع الرئيسية – لصنف الكذب الذي يراه المؤلف أكثر إيذاءً من صنفه الآخر – أن نقع على الكثير من النوايا الطيبة والخير.
والأمر كذلك، تبدو المعضلة باستمرار ليست في المصطلح أو في تصنيفه تأسيساً على أية مرجعية، ولا حتى في آثار وتجليات الفعل مجرّداً بعيداً عن أي تصنيف، بقدر ما هي حلقة مفرغة ندور فيها جميعاً وفي حوزة كل منّا تفاسيره وتبريراته الخاصة رجوعاً إلى رؤيته الشخصية المرتبطة بالضرورة بمنفعته الذاتية التي تتشكّل في ضوء مؤثرات شديدة التغيّر من حوله تختلف بوضوح في طبيعتها وحجمها. عمرو منير دهب
للتواصل مع الكاتب: [email protected]