فريد الديب
إيمان مندور
“لعل هذه المرافعة تكون الأخيرة لي، اقتربت من الـ ٨٠ عاما وأعاني من السرطان وقد أديت واجبي تجاه موكلي، وقد اجتهدت.. ولكل مجتهد نصيب حتى لو أخطأ”.. هكذا اختتم المحامي الشهير فريد الديب مرافعته في 12 مارس الماضي، أثناء الدفاع عن رجل الأعمال حسن راتب المتهم في قضية الآثار الكبرى، لتكون بالفعل المرافعة الأخيرة في حياته، حيث توفي صباح اليوم بعد معاناة مع مرض السرطان، وقبل أن يترافع بنفسه في قضية نيرة أشرف التي قبل الدفاع عن القاتل فيها.
فريد الديب الشخصية الأكثر جدلًا في ساحات المحاكم، والمحامي الأكثر شهرة في مصر والوطن العربي. ترافع عن أغلب قضايا الرأي العام في مصر، ويلجأ إليه المشاهير وكبار رجال الأعمال دوما في قضاياهم على اختلاف أنواعها، سواء قتل أو آثار أو جاسوسية أو تهريب أو أي شيء تجتمع فيه عناصر المال والسياسة أو المال والشهرة والنفوذ، وتحديدا على مدار الثلاث عقود الأخيرة من النادر أن تجد قضية رأي عام لم يترافع فيها.
60 عامًا مرّت منذ بداية دخول فريد الديب السلك القضائي ثم المحاماة، فالمحامي الشهير الذي ولد في 23 أكتوبر عام 1943، تخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة في مايو 1963، ثم عُيّن في النيابة العامة 25 أكتوبر 1963، وظل يعمل بها حتى تم إقصاؤه عن منصبه في مذبحة القضاء في 31 أغسطس عام 1969. في هذه المذبحة عُزل من سلك القضاء 128 مسؤولا، على رأسهم رئيس محكمة النقض في ذلك الوقت المستشار عادل يونس، وأصغرهم وكيل النيابة فريد الديب.
ظل “الديب” في منزله لمدة شهر لا يجد عملا ولا يعرف المهنة التي سيتجه إليها أصلا، إلى أن وصله خطاب من وزير العدل بإحالته للمعاش، رغم أن عمره وقتها كان 26 عاما. لكن صدر بعدها قرار جمهوري بإلحاق بعض المعزولين من القضاء في وظائف أخرى، فقرروا تعيينه في وزارة العمل. قبل “الديب” الوظيفة، لكن وجد نفسه لا يؤدي فيها أي عمل، فاستمر على حاله إلى أن تم إعارته إلى المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة لمدة 9 أشهر، ثم استقال لينتقل للعمل في المحاماة منذ مطلع 1972. وبعد مرور عام قضت محكمة النقض بإعادته إلى وظيفته في النيابة، فعاد لمدة شهر تقريبا ثم استقال منها بإرادته، رغبة منه في الاستمرار في المحاماة التي وجد نفسه فيها.
تولى فريد الديب الدفاع عن أحمد الريان صاحب أشهر قضية هزت الرأي العام بالثمانينيات، بل وسجن لأجل هذه القضية بعد اتهامه بإخفاء أموال موكله، لدرجة أن آل ريان نشروا بيانا عبر الصحف المصرية يتبرأون فيه من الديب، ويؤكدون انتهاء التعامل بينهم وبينه للأبد.
بدأت شهرته الإعلامية “الحقيقية” في عام 1997، حين تولى الدفاع عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، حيث أكد مرارًا عبر الصحف وقتها اقتناعه ببراءة موكله، مما أثار جدلا كبيرًا في الشارع العربي وليس المصري فحسب، لدرجة أن ممثل نقابة المحامين تقدم بطلب للمحكمة بإعفاء فريد الديب من مهمته كمدافع عن الجاسوس، لأنه “تآمر ضدّ مصلحة الأمة”، لكن تم رفض الطلب ورأت المحكمة أن لكل متهم الحق في ممثل قانوني، فضلا عن رفض الديب أن يتنازل عن القضية أصلا.
في النهاية ثبتت تهمة التخابر مع الموساد الإسرائيلي على عزام عزام، وأدين بعدها بتهمة التجسس ونقل معلومات عن المنشآت الصناعية المصرية إلى إسرائيل، وحكم عليه بالسجن 15 عاما مع الأشغال الشاقة، ليخرج بعدها في فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك بعد 8 سنوات، ويطلق سراحه في مقابل إطلاق سراح 6 طلاب مصريين اعتقلوا في الأراضي الفلسطينية.
امتلك فريد الديب كاريزما طاغية، حيث يستطيع بسهولة سرقة الأضواء من أي قضية أو شخص أو حوار وتحويلها إليه. لا تشعر أمامه سوى أنه رجل ذكي، سريع البديهة، حاضر الذهن، يجيد العثور على الثغرات، حتى وإن لم تكن موجودة. يستمتع بقبول القضايا التي يقول الجميع إنها مستحيلة، كالطبيب الذي يتدخل لجراحة يعلم أن نسب النجاة فيها تكاد تكون معدومة.. لكن تلك المجازفة شبه المستحيلة هي سر شهرته.
أجاد البحث عن الأضواء والوصول إليها، ولم يسع لغير هدفه الأساسي نحو الشهرة والقوة والمال، مبتغيا لأجل ذلك كل السبل الممكنة وغير الممكنة لغيره.. طريقة “ميكافيلية” على أصولها، إن جاز التعبير. لذلك لا تكاد قضية كبرى للمشاهير إلا وتجده يترافع عنهم فيها، بدءا من الأديب العالمي نجيب محفوظ مرورا بالكاتب محمود السعدني وإبراهيم سعدة ومصطفى أمين وسعد الدين إبراهيم وأيمن نور وهشام طلعت مصطفى ويسرا وثناء شافع ونجوى فؤاد وفيفي عبده ومدحت صالح، ونواب القروض، وعائلة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في قضية التشهير التي أقامتها أسرته ضد صحيفة “العربي الناصري” التي اتهمت الرئيس الراحل بالخيانة وغيرهم الكثير.
رغم كل تلك القضايا، والتي خسر الديب الكثير منها، فلم يحصل الكثيرون على البراءة، لكنه ينجح دوما في تحقيق أخف عقوبة ممكنة، وينجح حرفيا في حل حبل المشنقة من على أعناق الكثيرين، وهو “منطقيا” ما لا يعد خسارة بل مكسب كبير، لكنه لم يكن كافيا لطموحه، إلى أن جاءته القضية الأكبر والأهم في مسيرته وفي القضاء المصري ككل، ألا وهي الدفاع عن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ونجليه، في أول محاكمة مدنية لرئيس مصري على مر التاريخ.
“قضية العمر” التي جاءت على طبق من ذهب لفريد الديب في سنواته المهنية الأخيرة ليثبت من خلالها مدى دهائه القانوني، غير مكترث بهتاف الشعب ضده ولا الهجوم ولا الانتقادات ولا التهديدات، كان كل ما يهمه فيها أن يخرج منتصرا ومقتنصًا للفرصة التي لم تتح لمن قبله وربما لن تحدث لمن بعده.
سنوات من الدفاع والطعون والأحكام والنقض والمرافعات واللقاءات والتبريرات، انتهت جميعها بخروجه منتصرا بحكم البراءة للرئيس الأسبق ونجليه، لدرجة أن صورته الشهيرة قبل نطق المحكمة بالبراءة أصبحت رمزا لانتصاره، فقد شعر بنشوة النصر وجلس جلسته الشهيرة وهو ممسك بسيجاره كعادته في المحكمة، ينفث منه دخانه الكثيف بعدما أطاله في فمه، لكن هذه المرة متلذذًا بنشوة النصر التي لم يحققها أي محام آخر.
سيجار فريد الديب لا تكون لذته عند الانتصار لموكليه فقط، لكن المتعة أيضا في السيجار ذاته، فهو “مدمن” سيجار منذ ما يقرب من 50 عاما، واعترف بهذا الإدمان إعلاميا، مؤكدًا أنه الشيء الوحيد الذي يستمتع به في الحياة.. ويتعب بدونه.
المتابع لمرافعات فريد الديب في المحاكم، خاصة في قضايا الرأي العام، والمتوفر منها مقاطع مصوّرة عبر الإنترنت، يدرك مدى إجادة الرجل للتمثيل واللعب بالأداء، والتأثير بالأسلوب والطريقة، بعيدا عن كونه صادقا أو كاذبا، فالذهن ينصرف دوما للإعجاب بمدى إجادته للحديث والعرض والتمثيل بالأداء والحركات والصوت وردود الفعل.
ملكة الكلام لديه قوية، النطق صحيح، اللسان غير متلعثم، التفاصيل حاضرة بمنتهى الدقة وفي كل وقت. يملك فريد الديب القدرة على جعلك تندهش من شخصيته وتدرك مواطن قوته رغم اختلافك معه ومع مواقفه ومع موكليه، ومع تبنيه لقضايا يعلم الجميع أن المتهمين فيها مذنبون. لكن مبرره المتكرر لذلك: “هل لما اترافع في قضية جاسوس، بقيت أنا الجاسوس؟ هل لما اترافع في قضية قاتل بقيت أنا القاتل؟!”.. الإجابة عن هذا السؤال معروفة.
ملكات فريد الديب المهنية والشخصية، وملامحه وتصرفاته في المحكمة، حتى سيجاره الشهير أثناء انتظار الحكم، تجعلك تدرك يقينا أنه “ديب” بالفعل، وأن له من اسمه نصيب، وأن شخصيته الغامضة المثيرة للجدل لن ينكشف منها إلا بقدر ما سمح وعرض وأعلن، لأن ما امتلكه من أسرار وكواليس حول أكبر قضايا الرأي العام التي هزت مصر لا يملكه أحد غيره. الرجل سواء اختلفنا أو اتفقنا معه لا شك أنه شخصية تستحق أن تُروى.. شخصية تستحق عرضها وسرد كواليسها بشكل أكبر، سواء عن طريق مذكرات أو حتى عمل درامي سيكون من الصعب إيجاد من يتقمص شخصيته فيه بكل ما تحمله من تناقضات ومميزات وعيوب وأسرار.
والأهم من ذلك كله أن أفضل من كان يمكنه تقديم هذه الشخصية فنيا هو النجم الراحل أحمد زكي، أفضل من قدم دور المحامي في السينما المصرية، لذلك في حال طرح شخصية فريد الديب في عمل فني، فإن الفنان الذي سيجيد تقديمه بشكل يكاد يكون مطابق للحقيقة، أكاد أجزم أنه سيتفوق فنيا على أحمد زكي في “ضد الحكومة”.. لكن أين أحمد زكي وأين المنافس وأين أسرار فريد الديب؟!