نورا غنيم
كيف سيكون الأمر، عندما يمتلك أحدنا قوة خارقة، تجعله قادرا على التواصل مع الموتى؟ كيف ستصبح حياته تحت تأثير هذه القوة والتواصل؟ وهل يمكن له أن يصمد أخلاقيا عند أول اختبار حقيقي؟!
إنها الأسئلة نفسها التي دارت في رأس المخرج الأمريكي جون لي هانكوك عند تقديمه فيلم “هاتف السيد هاريجان” (Mr. Harrigan’s Phone)، المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الأمريكي الشهير ستيفن كينج، وبطولة الكندي دونالد ماك نيكول والأمريكي جايدن مارتيل، والذي عُرض مؤخراً علي منصة “نتفلكس” (Netflix).
وقد قدّمت السينما العالمية بأكثر من طريقة أسطورة التواصل بين عالم الأحياء والموتى، وكان هذا عادةً ما يتم في إطار خلطة من الرعب والفانتازيا والكوميديا، لكننا هذه المرة أمام فيلم «واقعي» لم تخرج حبكته شديدة الجمال والتميز عن أسْر التقليدية التي غلبت على الكثير من أحداثه، وهذا ما أثار استغراب، وأحيانا سخرية المشاهدين، من طرحه كفيلم رعب.
فالملياردير العجوز هاريجان، ينتقل من مدينته الصاخبة إلى مدينة ريفية هادئة، يرفض فيها التواصل مع الآخرين، مكتفيًا بقراءة الكتب والجرائد والاستماع إلى الموسيقى. ومع تدهور حاسة البصر لديه، يضطر إلى الاستعانة بالطفل “جريك”، ليقرأ له ثلاثة أيام أسبوعيا، في روتين استمر لسنوات حتى دخول الألفية الجديدة ووصول “جريك”إلى المرحلة الجامعية.
جاء الجزء الأول من الفيلم هادئا: الشخصيات يجري تقديمها عن طريق الحوار والأداء التمثيلي المتميز.. العجوز “هاريجان” وشخصيته الوقورة الهادئة التي تُخفي أبعادا مُحيرة تربك المشاهد، فهو لا يعلم ما إذا كان “هاريجان” شخص صالح حقًا أم شخص قاسٍ؟ والشاب الريفي “جريك” الذي يفتقد الثقة في نفسه ويخبئ ضعفه خلف الكتب التي يقرؤها للعجوز.
وقد خرجت علاقة الصداقه بين جريك وهاريجان جميلة ومعبرة عن فرق الخبرات والقوة والثقة بينهما، حيث أعطى جريك لصديقه العجوز سنوات من التواصل الحقيقي والنقاش حول الكتب والأفكار الفلسفية المهمة لكبار الكتاب، بينما أعطى العجوز لـ”جريك” الثقة ونصحه بالتعامل مع المتنمرين بقسوة، وأن يستغل الفرص ويطلب ما يريد بقوة.
وأحداث الفيلم في هذا الجزء تسير على وتيرة هادئة، حتى تأتي اللحظة المُريبة للسيد هاريجان، الذي يشتري له جريك هاتفا محمولا ذكيا، ليجد هاريجان نفسه لأول مرة أمام شبكة عنكبوتية مُريبة تضع كل شئ أمام الناس دون أية ضوابط أو تقاليد. ولخبرته الكبيرة في الحياة وعالم المال والسياسة، تنبأ هاريجا بالمستقبل المُرعب لتأثيرات الشبح الصغير المُسمى “موبايل”: حجم ضخم من المعلومات المغلوطة والمضللة ستتوفر بين أيدي الناس عبر الإنترنت، قلب مذهل للحقائق و انقلاب في تقاليد صناعة المال والثروة. صراعات سياسية واجتماعية، ستخلق مدمنين للموبايل، وتؤسس لنوع جديد من الملكية والعبودية.
وهنا يأتي مشهد وفاة السيد “هاريجان” كإعلان عن بداية ونهاية: بداية “حقبة زمنية” جديدة تُلقي بالبشر في اختبارات إنسانية وأخلاقية لا طاقة لهم بها، عنوانها «التيه والتشتت»، ونهاية حقبة زمنية تقليدية قامت على وضع ضوابط وتقاليد لكل شئ، واحترمت تراكم الخبرات بين الأجيال، وطرحتها عبر الوسيط الأكثر دقة وعمقا في التواصل، وهو “الكتاب”.
تأتي جنازة السيد “هاريجان” في مشهدٍ من أهم وأجمل مشاهد الفيلم، حيث قرر “جريك” الحزين لفقد صديقه، وضع هاتف العجوز داخل التابوت، ليحبس أنفاس المُشاهد أمام احتمالية استمرار التواصل بينهما، ومن ثم التنبؤ ببداية أحداث ساخنة للفيلم.
لكن هذه الحبكة المدهشة لم ينتج عنها دراما مميزة أو مثيرة للمشاهد، إذ اختار المخرج جون لي هانكوك الخطْوَ بالدراما خطوات هادئة تقليدية محسوبة رغم غرائبية الحبكة وقربها من حواديت الأشباح وما وراء الطبيعة. ومع الانتقال إلى مرحلة التواصل الوهمي بين العجوز “الميت” وجريك، يظن الأخير أنه يتلقى رسائل من قبر العجوز، في شكل حروف غير مفهومة. وتسيطر على جريك فكرة أن العجوز يشعر به ويتواصل معه ويصبح الموبايل هو صديقه الوحيد الغريب الذي يمده بالقوة الخارقة في التواصل مع الموتى.
وفي ليلة يسأم جريك، من تنمر أحد زملائه عليه، ويطرحه ضرباً ويشتكي أمره للعجوز في رسالة صوتية، ليفاجأ في اليوم التالي، بموت الشاب عبر طريقة بشعة، فيشك جريك المصدوم في تدخل العجوز الميت وإنهاء الأمر. ولكن كيف لجريك هذا الشاب البسيط، أن يتعامل مع ما يظنه في نفسه من “قوة خارقة” في التواصل مع الموتى؟ وكيف له أن يستخدمها؟!
وهنا يدخل جريك في اختبار أخلاقي، يشبه الاختبارات التي تعرضنا لها جميعًا بعد سيطرة الهواتف المحمولة على عالمنا، وانخراطنا تحت حصار الشاشات في تواصل وهمي، وعلاقات غير مفهومة، وضغوط نفسية، تدفعنا لاتخاذ قرارات، وتبني أفكار ليست من صميم فطرتنا، وتؤثر بالسلب على أخلاقنا وصحتنا العقلية والنفسية.
وهنا تأتي لحظة حاسمة في حياة جريك، عندما تموت معلمته المفضلة في حادث سيارة ويخرج القاتل المدمن بأقل عقوبة، فيقرر جريك الانتقام، والاتصال بالعجوز الميت طالبا منه المساعدة في التخلص من القاتل، في تحريض واضح على العنف خارج إطار القانون. وفي صدفة مُحكمة، ينتحر القاتل بالفعل، ويموت بطريقة تُشعر جريك أن الأمر حدث بفعل فاعل، فيدخل في دوامة من الندم والتيه، ليؤكد لنا الفيلم أن استجابة الله لكل رغباتنا وقتما نريد وكيفما نريد، ربما يحولنا إلى شخصيات سيئة مضطربة نفسيًّا.
فحادث موت زميل جريك، وانتحار قاتل معلمته، هي أمور حدثت بالصدفة، والرسائل العشوائية ذات الحروف غير المفهومة والتي ظن جريك أنها تصله من هاتف العجوز، ماهي إلا عطل في برمجة الهاتف. لكن عقل جريك الواهم رفض تقبل هذه الحقائق، وانساق وراء رغبته، في تصديق تميزه وامتلاكه قوة خارقة للطبيعة، إلا أنه في النهاية أدرك حتمية التوقف عن تصديق الأمر، حتى لا تسوء حياته أكثر من ذلك.
فيلم “هاتف السيد هاريجان”، فيلم تقليدي غير طموح، لكنه يعبِّر عن أفكار مهمة بطريقة بسيطة، إذ يدعونا بشكل توعوي مباشر، إلى إعادة تقييم علاقاتنا بهواتفنا. إنه يخبرنا بوضوح، أن كل الحكايات الواقعية والخيالية التي يكون بطلها “الهاتف المحمول”، تُفقد المرء إنسانيته وفطرته السليمة تدريجيا، ليتحول في نهاية المطاف إلى ضحية.. أو جلّاد.