تنبيه: قبل أن أبدأ في مناقشة الفكرة، أرجو تفهم إني لست عالم دين ولا أمتلك من المعرفة بالعلوم الشرعية ما يسمح لي بمناقشة القضية فقهيا، ولكن ما سأتناوله في السطور القادمة هو مناقشة على أساس منطقي سعيا للوصول إلى المنفعة.
يخرج علينا كل يوم عشرات – وربما مئات – الإعلاميين والمثقفين والسياسين بدعوات لمحاربة الفكر المتطرف من خلال ما يصفوه بـ”تجديد الخطاب الديني”، ذلك التعبير الفضفاض الذي يشبه مصطلحات كثيرة انتشرت منذ اندلاع ثورة يناير، يفصلها كل طرف على هواه. فالبعض يرى تجديد الخطاب الديني في شخص مذيع معين، والبعض يراه في محاربة استخدام الإخوان والسلفيين للدين في العمل السياسي، والأخر يراه التصدي للفكر الداعشي وغيرها من جماعات تكفيرية متطرفة، بينما يظن البعض الأخر إنه يعني تحريف وتعديل الدين، وأخرون يلخصونه في الحجاب أو مزيد من الحريات .. كل منهم يراه وفقا لأجندته السياسية والاجتماعية، وكل منهم يريد أن يصل إلى النتائج الآن، مرة واحدة، دون أن يسير على درب التغيير المعروف.
من وجهة نظري المتواضعة، تجديد الخطاب الديني – أيا كان معناه – يسعى في النهاية إلى أمرين؛ أولا محاربة التطرف الفكري الذي يستخدمه الإرهابيين لبناء قواعد وتجنيدها، وثانيا دمج الفرد المسلم مع أفكار العصر دون المساس بثوابته، ليصبح قادر على الإنتاج الفكري والمادي دون أن يتخلى عن إيمانه ومعتقادته. يعتقد البعض أن ذلك لن يحدث إلا من خلال عملية “فتلرة” أو تنقيح للتراث الإسلامي، والتخلص من الأفكار والنصوص التي تتسم بالدموية أو تدعو للتميز والكراهية وجمود الفكر. لكني أختلف مع ذلك النهج الصدامي رغم أهميته، إلا أن محاولة هدم الأفكار داخل العقول والنفوس وتبديلها بأخرى أمرا صعبا للغاية، وفي الأغلب يكون رد فعل الجمهور دفاعي وعكسي، وهو أمر يؤكده علمي النفس والاجتماع، ولا ينطبق على الإسلام أو الأديان وحسب، بل ينطبق على تغيير أي فكرة يؤمن بها الشخص حتى لو كانت شديدة البساطة. ضف على ذلك أن الجموع العريضة لا تتبنى تلك الأفكار المتطرفة – حتى وإن أعجبت ببعضها، وإن من يؤمن بأن ذلك التطرف هو أساس الدين لن يثنيه عن ذلك تلك المناظرات أو مناقشات المثقفين النخبوية عبر شاشات التليفزيون.
التغيير أو التجديد – من وجهة نظري – لابد يكون تدريجيا، من خلال المعارك الصغيرة المتتالية، التي لا تستفز مشاعر الجموع العريضة ولا تمس ثوابتها، وفي نفس الوقت تضرب لهم مثال أن لهذا التغيير فوائد إيجابية تنعكس على حياتهم ومجتمعاتهم. فلنأخذ “الخروف” أو الأضحية كمثال، الأضحية هي عادة مارستها الكثير من الأديان قبل الإسلام، كدليل لعرفان العباد إلى ربهم. وفي الإسلام، يقوم المسلمون بالتضحية بكبش – أو ما هو أكبر، كل حسب طاقته – منذ أكثر من 1400 عام وحتى الآن. إذا نظرنا إلى الأمر بصورة منفعية بعيدا عن الدين، فسنجد أن للأمر فوائد كثيرة على المجتمع، بداية من نشاط التجارة في ذلك الموسم، ونهاية بتفرقة اللحوم على الفقراء والأقارب، مما ينشر روح من الود والتكامل بين أبناء المجتمع. تقليد كان له فوائد اجتماعية هامة في عصر المجتمعات البدوية البسيطة المنغلقة، وتطور هذا التقليد على مدار السنوات، ليصل الآن للعجول والمواشي التي تذبح مشاركة لتقديم كمية أكبر من اللحوم بنفس القيمة المادية، وهي فتوة مقبولة بين معظم المسلمين، ويستطيع الفرد أن يلمس فائدتها عن التقليد السابق (الخروف لكل فرد قادر). ثم التطور الثاني والأكثر عملية، وهو صك الأضحية، والذي تقوم به عدة مؤسسات تقوم بتوزيع اللحوم بالنيابة عن المضحي، وتصل تلك اللحوم إلى أماكن أبعد وأكثر فقرا لم تكن تصلها أضحيات القادرين بهذا الطريقة من قبل، ثم التطور الأخير، وهو توزيع تلك اللحوم طوال العام بدلا من يوم واحد فقط، الأمر الذي يستطيع الفرد أن يلمس نتائجه أيضا. الخطوتان السابقتان هم دليل على قبول المجتمع تغير الموروث إذا وجدت بديل أكثر نفعا.
بنفس المبدأ النفعي، يمكن أن تستخدم أموال الأضحيات في أمورا أكثر نفعا. ليست الأضحيات فقط، بل والحج أيضا، فالحج فرض مشروط بالاستطاعة أو القدرة المادية والصحية. فلنتخيل معا إن نصف أموال الأضحيات والحج تذهب إلى جهة ما تتعامل معها معاملة الوقف، تخيل هذا المبلغ الرهيب إذا استخدم لتقديم منح دراسية حقيقية للطلاب المتفوقين غير القادرين، تخيل لو استخدمت تلك الأموال في علاج المصابين بفيروس سي، أو تطوير شبكات مياه الشرب لتحمي المواطنين من الفشل الكلوي. أيهما أكثر فائدة؟ توزيع اللحوم أو زيارة بيت الله، أم أن يكمل شاب متفوق درساته ليصبح شخص منتج في المجتمع يحظى بحياة كريمة؟!
هل تعرف ما هو التحدي الأكبر لإجراء تلك الخطوة؟ علماء الدين أنفسهم، هؤلاء المطلوب منهم أن يخرجوا للعامة ويخبروهم أن “من استطاع إلى سبيله” لا تعني فقط أن تمتلك المال والصحة للذهاب، ولكن ألا يكون هناك في دائرتك من هو أكثر حاجة لذلك المال. هل يمتلك أحد المشايخ الشجاعة ليخرج بتلك الفتوة التي ستغضب المملكة العربية السعودية وبالتالي مشايخ السلفيين في وطننا؟!
إن تلك الخطوات الصغيرة البعيدة عن مناطق الجدل الساخنة هي السبيل للوصل إلى التغيير المطلوب، لإنها توصل للكل رسالة هامة، إن الدين قابل للنقاش والتجديد وليس جامدا، إن الدين يسعى للمنفعة والفائدة وليس مجرد تكرار لعادات، إن الدين في هو وسيلة لكي يقدم كل منا أفضل ما عنده لنفسه ولمجتمعه ولوطنه، وليس مجرد عداد حسنات.