المونديال والعاطفة
حكى صلاح جاهين، الفنان وشاعر العامية المصرية الشهير، في لقاء تلفزيوني مع الشاعر والإعلامي البارز فاروق شوشة، عن ذكرياته مع تجربة المشاركة في التمثيل للسينما، ربما فيلم “لا وقت للحب” تحديداً. قال جاهين إن تجربة التصوير التي امتدت لأشهر قد جعلته يشعر بارتباط عاطفي عميق بفريق العمل، حتى إنه لم يكد يستوعب أنهم لن يلتقوا مجدداً مجتمعين بعد آخر يوم للتصوير. عبّر جاهين، وهو يحكي ذلك بتأثّر واضح، عن مشاعره لفاتن حمامة التي كانت تقوم بدور البطولة النسائية في الفيلم فأوضحت له أن هذا أمر طبيعي في مجالهم، يلتقون خلال العمل السينمائي وتتكون عائلة بما يشبه المعنى الحرفي، ثم يتفرقون كلّ إلى وجهة مغايرة، عمل فني آخر أو ما عداه من مشاغل الحياة، وتبقى الذكرى التي لا يزال بعض آثارها جليّاً على وجدان الشاعر المرهف وهو يحكي القصة بعد ما يربو على العشرين عاماً تقريباً مرّت على تجربته الفريدة.
وبعد أكثر من أربعين سنة، لا أزال أتذكر تجربة شخصية مشابهة ولكن أوسع نطاقاً بحساب الزمان والمكان. فبعد أعوام من الإقامة في منطقة سكنية في الخرطوم قُدِّر لنا أن نرحل إلى منطقة أخرى، وخلال تجربة الانتقال كنت أتأمّل كيف أن ذلك المجتمع المترابط في الحي القديم لن يغدو جزءاً منّا ولن نغدو جزءاً منه بعد الانتقال. وطبقاً لتقليد اجتماعي نبيل، كان معتاداً أن تقوم ثلة من نساء الحيّ القديم بزيارة ربة الأسرة في منزلها بالحي الجديد، وهو ما جرى بالفعل، لكن ذلك الحدث البهيج رغم رمزيّته السامية لم يفلح في إقناعي حينها بأننا لا نزال ضمن تلك العائلة التي لا تزال مترابطة في حيّنا القديم، بل على العكس أكّدت الزيارة الخاطفة لنساء الحي القديم الفراقَ، إذ لم تتجاوز أن تكون حدثاً عابراً تخلل لسويعات فراقاً أبدياً باعتبار أن العودة لم تكن واردة إلى المجتمع القديم الذي تبدّد برمّته تقريباً بعدها على مرّ السنوات في واحدة من سنن الحياة التي لا مناص منها.
ليس غريباً إذن أن يشعر كثيرون بالفراغ عقب انفضاض سامر كأس العالم الأخيرة، والمتأثرون عاطفياً بذلك الفراغ ليسوا عشاق كرة القدم المهووسين فحسب بل أيضاً أولئك الذين لا يتابعون البطولات الرياضية إلا عندما تصبح حدثاً في احتدام وألق بطولة كأس الفيفا منقطعة النظير، وربما كانت الفئة الأخيرة هذه الأكثر تأثراً، فعشاق كرة القدم سينصرفون إلى متابعة البطولات المحلية والدوريّات العالمية، بينما يبقى الأقل اهتماماً بكرة القدم الخالصة في انتظار أربعة أعوام أخرى ليرقى الحدث إلى ما يجذب اهتمامهم بعد أن تضاف إلى فنون الكرة المحضة الكثير من توابل الإثارة في قلب البطولة وما لا يحصى من المُحلِّيات على هامشها مما هو أكثر جذباً لدى البعض للتعلّق بالبطولة وأجوائها وأخبار نجومها اللاعبين خارج مستطيلاتهم الخضراء.
وربما يفوق أيضاً افتقادُ المتابعين من عامة الجماهير لأجواء المونديال افتقادَ اللاعبين المحترفين المشاركين في البطولة للحدث نفسه، فأولئك المحترفون سينشغلون بعدها مباشرة بالانخراط الجاد في تمارينهم ومبارياتهم الرسمية مع أنديتهم التي تتطلّب عملاً جاداً وجهوداً شاقة. وباستلهام ما بدأنا به من قصة صلاح جاهين الممثل الهاوي قياساً إلى فاتن حمامة المحترفة مع افتقاد أجواء العمل الحميمة خلال تصوير فيلم سينمائي، يبدو أن احترافية اللاعبين الأبطال لا تقف عند حدود الأداء الفني خلال المباريات وإنما تتعدّى ذلك لتشمل المعالجة السريعة والحكيمة للمشاعر الجارفة بُعيد انتهاء أية بطولة، حتى إذا كانت البطولة في ألق كأس العالم نفسها.
تفتقد الجماهيرُ مشاهيرَ المونديال إذن بصفة شخصية لأمد يمتد أطول من افتقاد أولئك المشاهير للبطولة نفسها على الأرجح، كما إن نجوم الكرة لا يفتقدون من يتابعهم بصفة شخصية بطبيعة الحال وإنما كمجموع ينتظر كلُّ نجم أن يلهث ذلك المجموع خلفه وحده، أو على الأقل خلفه قبل غيره من بقية النجوم. ذلك حظ النجوم من حظوة العلاقة غير المتكافئة على كل صعيد مقابل حظ الجماهير التي ترضى من غنائم سماوات النجوم بالإياب بمتعة المتابعة الخالصة، إضافة إلى الانجذاب العاطفي لدى أي متابع تجاه أيٍّ من النجوم كما لوكان ذلك النجم يخصه دون غيره، أو على الأقل يخصه قبل غيره من المتابعين المهووسين على ذات الشاكلة.
في مونديال 2022 ازدادت حدة الانجذاب العاطفي عربياً على وجه التحديد لأن الحدث الرياضي الأبرز في كرة القدم وقع هذه المرة على أرض عربية فلبس ثوبها وغمرته أحاسيس بهجة احتفالية فريدة تخللت كلّ ذي صلة بالمستطيلات الخضراء تقريباً عدا القوانين الفنية للعبة التي تدور رحاها داخل تلك المستطيلات. وزاد من حدة الانجذاب العاطفي العربي، وما يتبعه من إحساس بالفراغ عقب الانتهاء من البطولة، ذلك الإنجاز الأول على المستوى العربي بصعود المغرب إلى الدور نصف النهائي، فنافس بذلك “أسود الأطلس” في النجومية أندادهم من نجوم العالم في المجال نفسه، بل علت نجوم أولئك الأسود في السماوات العربية فطغت لأمد ليس بالقصير على نجوم كل سماء عربية وعالمية.
وربما طغى الانجذاب العاطفي العربي إلى حيث غدا أشبه بارتباط وجداني عميق فرحاً بالقدرة على استقبال الحدث الرياضي العالمي عربياً بطراز فريد في الاستضافة وتحقيق انتصارات ومكانة عالمية غير مسبوقة لفريق عربي صنع إنجازاً لم يكن منتظراً أن يبلغ ذلك المبلغ من الرفعة والتألق. ارتباط الجماهير العربية العاطفي هذه المرة يبدو خليطاً من التعلّق بداعي الحب والإعجاب والاشتياق إلى مَثَل أعلى تحقق على صعيد الشكل مجسّداً في روعة الأداء الفني وعلى مستوى المضمون ممثلاً في عظمة الانتصار، والأرجح أن الشكل والمضمون قد امتزجا هذه المرة على نحو فريد في سانحة نادرة على الصعيد العربي.
قبيل انتهاء البطولة تسنّى لي أن أتابع على هامشها مشاهد من مباراة أو اثنتين ضمن مسابقة لـ”أساطير” كرة القدم من قدامى لاعبيها الذين لم يتبق من أسطورية أي منهم سوى بضع لمحات فنية لا تكاد تلفت الانتباه مع دهشة لا مفرّ منها بسبب أجسادهم التي باتت بدينة لا تمت إلى الرياضة بصلة ووجوههم التي دبّ فيها الهرم فتغيّرت تغيراً أخفى ملامحها التي تستدعي أسطورية أصحابها إلى الذاكرة. لم أتذكر جيداً من أولئك الأساطير خلال المشاهد القليلة التي تابعتها سوى رينيه هيغيتا حارس مرمى كولومبيا الشهير.
بدا هيغيتا كسائر زملائه من قدامي النجوم منهكاً رغم أنه لم يكن يركض بل يقف حارساً مرماه الصغير بصورة أساسية لا تمنعه على كل حال من التقدم بين الحين والآخر لمشاركة اللاعبين تمرير الكرة وركلها وسط الملعب كما كان يفعل خلال المباريات الرسمية والبطولات الكبرى في أوج نجوميته، ما أهّله حينها للقب “الحارس المجنون”.
في نهاية المباراة الختامية لتلك البطولة الرمزية كانت “الأساطير” منهكة رغم صغر مساحة مستطيلها الأخضر هذه المرة وقصر زمن المباراة. تقدّم أحد أولئك النجوم القدامى رغم إنهاكه الواضح إلى الجمهور القليل الذي جلس لمشاهدة الأحداث، وبدا واضحاً أن الجمهور نفسه من جيل قديم نسبة إلى ذلك الذي يتابع مباريات المونديال الرسمية. وصل النجم القديم إلى حيث يجلس أحد (قدامى) المشجعين ورفع يده ليتلقى من المشجع قميصاً يمهره بـتوقيع (أوتوغراف). بدت اللحظة مشحونة بعاطفة عميقة لدى الطرفين (المشجع ونجمه المفضل) على الرغم من انحسار الضجيج والألق الذي كان من الممكن أن يحف لحظة كتلك لو أن ذلك المشجع كان محظوظاً فحظي بفرصة مماثلة قبل بضعة عقود مع النجم ذاته، بل ربما بدت اللحظة العاطفية عميقة تحديداً بسبب انحسار الضجيج والألق وبقاء الذكريات نقية خالصة الجمال. ألا تستحق تلك اللحظة تأملاً مستقطعاً من الزمن العريض الممنوح لأحداث المونديال الرسمية التي انقضت ولأبطاله النجوم الذين لا يزالون يتربعون على القلوب؟