من الماركيز المفقود لـ مصنع الكبريت.. “إينولا هولمز 2” تنتصر للمرأة
هالة أبو شامة
“غالبا ما يحملنا الخيال إلى عوالم وهمية، و لكن من غير الخيال لا يمكننا أن نذهب إلى أي مكان”.. إذا كنت تتفق مع الفلكي الأمريكي كارل ساغان، صاحب تلك المقولة فمن المؤكد أنك ستحب تلك المغامرة المثيرة التي ستصطحبك فيها البريطانية ميلي بوبي براون، بطلة فيلم “إينولا هولمز”، على مدار ساعتين وعشر دقائق، هي مدة الجزء الثاني الذي طُرح مؤخرا، عبر منصة نتفليكس.
في السطور التالية، سنتناول الحديث عن ذلك العمل المستوحى من روايات نانسي سبرينغر، والذي أخرجه هاري برادبير، لذا سيكون هناك حرقا للأحداث التي نُسجت بمزيج من وقائع وشخصيات حقيقة وأخرى وهمية بواسطة الكاتب جاك ثورن.
القصة تأتي استكمالا لأحداث الجزء الأول التي وقعت في أواخر القرن التاسع عشر.. فبعد أن نجحت إينولا الشقيقة الصغرى لشارلوك هولمز -ذات الـ 16 عاما- في حل قضية الماركيز المفقود، اتجهت لتأسيس وكالة تحري خاصة بها، ولأن لكل بداية صعوبات فإن التحدي الأكبر بالنسبة لها هو إثبات جدارتها وسط مجتمع يبخس إنجازات المرأة ويستهين بقدراتها.
بينما كانت “إينولا” غارقة في ظلمة اليأس ومستسلمة تماما لواقع مجتمعها، جاءت فتاة صغيرة لتوقد شعلة الأمل والنشاط بداخلها مجددا بعد أن أوكلت لها مهمة البحث عن شقيقتها “سارة تشابمان” إحدى العاملات بمصنع “ليون” للثقاب، والتي كانت قد اختفت قبل فترة بشكل غامض، وهو ما جعل “إينولا” تباشر مغامرة البحث والتقصي على الفور.
بخلاف قصة “الماركيز المفقود” التي بدأت بسرد تعريفي سريع لتاريخ الشخصيات الأساسية بالعمل، فقد حرص المخرج أن يكون المشهد الافتتاحي للجزء الثاني مفعما أكثر بالحركة والإثارة بفضل المطاردة التي دارت بين رجلي الشرطة و”إينولا” التي قاطعت المشهد لتتوجه إلى الجمهور قائلة: “ربما يجب أن أشرح”، وهي جملة داعبت فضول المُشاهد تجاه الأحداث التالية.
من تابع الجزء الأول يعلم بالتأكيد أن الطريقة التي انتهجها المخرج في مخاطبة الشخصيات للمُشاهد سواء بتعليقات ثانوية عن الحدث أو بالإفصاح عن الأفكار والملاحظات التي تدور في رأسهم بشأن القضايا قيد التحري ليست جديدة، لكنها استخدمت بكثافة في الجزء الثاني، وهي في كلا الجزئين جعلت الجمهور مشاركا بشكل أو بآخر في الأحداث وخلقت رابطا قويا بينه وبين أبطال العمل.
نجح جاك ثورن، في صنع تطورا مناسبا لشخصيات الجزء الأول، فمثلا “إينولا” أوضحت أن مكافأتها في قضية الماركيز كانت نواة تأسيس مكتب التحري الخاص بها، والماركيز ذاته فقد أصبح ذو مكانة مرموقة بحكم عضويته في مجلس اللوردات، أما والدة إينولا “يودوريا هولمز” التي تجسدها هيلينا بونهام كارتر، فما زالت هاربة وتعمل مع أقرانها من النساء المتمردات على بعض السياسات في المجتمع، فيما ظهر شقيق المتحرية الشابة “شارلوك” خلال الأحداث وهو يعيش حياته الروتينية عاكفا على حل إحدى القضايا التي تشابكت خيوطها مع خيوط قضية إينولا.
تلك التطورات التي لحقت بالشخصيات لم تشمل الشقيق الأكبر “مايكروفت هولمز” الذي لم يظهر بالأساس، وذلك كان منطقيا لأنه حدد موقفه بالفعل من إينولا بعد أن وافق في نهاية الجزء الأول على نقل وصايتها لشقيقهما شارلوك إذا تم العثور عليها، لذا وجوده كان سيعد بمثابة حشو لا فائدة منه.
من ناحية أخرى، بعض الشخصيات الجديدة التي تم توظيفها بالفيلم اُختير مُجسديها بذكاء، فمثلا سارة تشابمان، البطلة الحقيقية التي قادت إضراب “براينت وماي” الذي شارك فيه 1400 سيدة عاملة بالمصنع عام 1888،جسدتها هانا دود، وهي ممثلة تتمتع بقدر كبير من الجمال الذي خدم قصة العمل، لكن رغم اختلاف هيئتها عن الشخصية الحقيقية إلا أنه كان لا بد أن تكون حسناء حتى يُغرم بها نجل صاحب المصنع، الذي حاول أن يساعدها في الكشف عن الجرائم المُروعة التي ارتكبها المصنع في حق العاملات أبرزها موتهن نتيجة استنشاق مادة الفسفور وليس بحمى التيفوس، وهو مرض غير شائع، يختلف عن “التيفوئيد” ويصيب البشر نتيجة وجودهم في ظروف معيشية سيئة.
وفاة عشيق “تشابمان” في نهاية الفيلم، كان تصرفا حكيما من قِبل صناع العمل، الذين تجنبوا المساس بالتاريخ الأصلي للشخصية، إذ أن سارة الحقيقية تزوجت عام 1891 من صانع خزائن يُدعى هنري ديرمان.
إينولا هولمز 2
إينولا هولمز 2
ذكاء اختيار الشخصيات لم يقتصر على سارة وعشيقها، بل شمل أيضًا “ميرا تروي” التي جسدتها البريطانية شارون دنكان، والتي تبين في نهاية المطاف أنها المُحرك الأساسي لخيوط قضية شارلوك وأنها تلاعبت بكل شخصيات العمل وحركتهم حيثما شاءت كأنهم عرائس ماريونت، وهذه دلالة خدمت هدف السيناريو الأساسي وهو التأكيد على قدرة وقوة المرأة.
النص الحواري لشخصية “تروي” لم يثبت أن المرأة تتمتع بقدر كبير من الكفاءة والذكاء الذي تفوق على ذكاء الرجل فحسب، وإنما كان بمثابة صرخة في وجه العنصرية تجاه المرأة والسود في آن واحد؛ رغم أن شارون دنكان لم تنطق سوى كلمات توضح مدى الاضطهاد الذي تتعرض له النساء في تلك الآونة، إلا أن اختيار المخرج لها كممثلة تتمتع ببشرة سمراء كان رسالة كاملة المعاني للمُشاهد.
العمل كان ملئ بالرسائل المُدافعة عن المرأة، لكن في نفس الوقت تمكن صناعه من خلق التوازن بينها وبين الطبيعة والفطرة التي خلقها بها الله، ويظهر ذلك جليا من خلال مشاهد “إينولا” مع والدتها “يودوريا هولمز”، ففي المشهد الذي جمعهما في العربة الخشبية بعد الهروب من السجن، كانت يودوريا تمارس أمومتها مع ابنتها الصغرى من خلال تبادل أطراف الحديث حول القضية التي تشغل بالها وتسدي لها النصائح أثناء انشغالها برمي القنابل، ورغم أن فعلها الأخير يعد أمرا متهورا إلا أن ذلك لم يمنعها من طمئنة إينولا بين الفينة والأخرى قائلة “لا تقلقي هذا غير مؤذ إطلاقا”.
سمات والدة إينولا، كانت واضحة منذ الجزء الأول.. سيدة تتمتع بذكاء حاد، متمردة، شجاعة، تحب المغامرة، وطموحها كان متغلبا على عاطفتها، إلا أن عاطفتها أيضًا كانت تقاوم كل هذه الصفات لتظهر خلال مشهدين وهي تنفصل بشكل مفاجئ عن الأحداث المحيطة بها لتنتقد بلطف تسريحة شعر ابنتها إينولا.. وهي تفصيلة أراد المخرج أن يؤكد بها أن “الأم تبقى أم”.
اختتم كاتب السيناريو القصة بنهاية عادلة لم يبخس فيها حق الرجل ولم يقلل من قدر المرأة، بل أكد على أن كل منهما يُكمل الآخر، فنصف حل كل قضية كان مرتبطا بالقضية الأخرى، لذا شاهدنا إينولا وشارلوك يتوصلان لنفس الحلول في نفس الوقت ويجمعان الخيوط سويا حتى أصبحت الصورة كاملة أمامهما.
كان من الرائع أيضًا، اعتراف متحري ذو خبرة كبيرة مثل شارلوك، بمجهود شقيقته إينولا واجتهادها حينما عرض عليها عقد وكالة تحري مشتركة بينها تحت عنوان “هولمز وهولمز”، لكن رفضها كان انتصارا للمرأة واستقلاليتها.
ظهور دكتور “واطسون” في المشهد الأخير، وهروب “ميرا تروي” من السجن، ربما يكون تمهيدا لمغامرة ثالثة أكثر متعة، نتمنى أن تُطرح عن قريب. إينولا هولمز 2