كل شيء إلا الحقيقة
“تُعدّ فكرة إيجاد كبش فداء نقطة محورية في مطاردة السحرة، إذ إنها اضطلعت لفترة طويلة بدور مهم في طريقة دفاع المجتمعات عن نفسها في مواجهة المخاوف والتهديدات. فبواسطة كبش الفداء يحرر الناس أنفسهم من الذنب، ويلقون باللوم على هدف بريء، سواء أكان شخصاً أو جماعة. وعلى حد تعبير عالم الأنثروبولوجيا جيمس جورج فريزر، فإن إيجاد كبش فداء يمكننا من تحميل شخص آخر جريرة المشاكل التي نحجم عن تحملها بأنفسنا. فالأمم تتهم أمما أخرى أنها سبب مشاكلها، والحكومات تتهم النقابات، والنقابات تتهم الإدارات، وأفراد الأسرة يتهمون بعضهم بعضاً. إن الآباء والأمهات الذين تنشب بينهم الخلافات يلقون بالمسؤولية على أطفالهم فيما يتعلق بقصورهم وفشلهم كأهل؛ والمراهقين يجرِّمون زملاءهم الأضعف ويحملونهم جريرة أخطائهم وإخفاقاتهم؛ وكبار الموظفين يتهمون صغار الموظفين بدلاً من تحمّل مسؤولية سوء تقديرهم. كما أن الحكومات توجِد أكباش فداء بغية تشتيت انتباه الرأي العام عن عيوب سياستها وأخطائها”.
يواصل ستيفن فاينمان Stephen Fineman في كتابه “صناعة اللوم: المساءلة ما بين الاستخدام وإساءة الاستخدام” الصادر عن دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ضمن مشروع “كلمة” سنة 2018، ترجمةً للأصل الإنجليزي The Blame Business: The Uses and Misuses of Accountability، يواصل فاينمان بعدها بفقرتين: “استغرق منّي الأمر حوالي عامين من الإحباط والغضب والاكتئاب والإرهاق البدني والانفصال المطلق والتعب والأرق، لأدرك أنني أصبحت “هدفاً”، أو بالأحرى “كبش فداء” للاختلال الوظيفي في العمل، بدءاً من المدير الأعلى وصولاً إلى موظف البريد. وبعد مزيد من البحث أدركت أن ما كنت أظن أنه نتاج مخيلتي فحسب هو في الحقيقة واقع، وأن الآخرين يعانون النوع نفسه من التعذيب الصامت، يتحملونه يومياً، مع عدم وجود شخص يناقشون الأمر معه، خصوصاً رؤساءهم المباشرين، لأن المشرف يتغاضى، عن قصد أو عن غير قصد، عن هذا النوع من السلوك”.
كبش الفداء إذن مفهوم يتجاوز الديانات والأعراف القديمة ليشمل الممارسات الاجتماعية وسلوك الزملاء في أمكان العمل وأنماط التحرّش/التنمّر لدى المراهقين وحتى استجابات الأطفال التلقائية (ليست البريئة باستمرار). والحال كتلك، ربما يغدو من المناسب، ومن أجل مزيد من الدقة، أن نضيف إلى المصطلح كلمة أخرى بحيث يغدو “كبش فداء الحقيقة”، فنحن ندفع بكبش الفداء على أي صعيد لنتستّر على حقيقة ما، وبتعبير أكثر دقة لنتواطأ فيما يشبه المسرحية على إنسان أو حيوان أو حتى جماد ضعيف لنحمّله مسؤولية ما حدث، وهو تواطؤ لا يشارك فيه فحسب الأفراد المنتمون إلى الجماعة الخائفة وإنما كذلك الجهة التي من شأنها أن تُنزِل العقاب والتي من المفترض أن تتجاوز عن معاقبة المجموعة اكتفاءً بما حلّ بها من الذعر فأذعنت ودفعت مضحية بأحد المنتمين إليها. وإذا كان كبش الفداء في الغالب هو الأضعف بين من يمكن أن يُوجَّه إليهم الاتهام الزائف، فقد يحدث في بعض الثقافات أن يختار المجتمع بعض أفضل ما/مَن لديه ليكون كبش الفداء الذي يُعوَّل عليه أن يُرضي السلطة التي تهمّ بالعقاب فتتراجع عن إنزال سخطها على الجماعة بأسرها.
كبش الفداء واحد من تجليات التفافنا الذي نمارسه باستمرار على الحقيقة، وربما يجوز أن نصفه بكونه أحد مشاهد تمثيلية بالغة الأهمية لا تستقيم حياتنا بدونها هي تمثيلية القانون.
في “طريق الحكمة السريع” جاء أن “العدل لا يغمر هذا العالم. أوافق على أن حياتنا مع القانون سيئة، لكنها أكثر سوءاً بدونه”، ما يشير إلى أن القانون، أيّ قانون، لا يضمن حياة مثالية يعمّ فيها العدلُ العالمَ، غير أن عالماً بدون قانون ليس بطبيعة الحال أدعى إلى انتشار العدل وإنما العكس. والحال كتلك، يبدو القانون كما لو كان شرّاً لا بدّ منه، ذلك ببساطة لأن شرّاً أشدّ استعاراً سيستطير في حال التخلّي عن الاحتكام إلى القانون، أي قانون.
استمراراً مع “طريق الحكمة السريع”، فإنه “بدون سنّ القوانين لا توجد وسيلة لتجاوزها”، ما يومئ إلى أن فكرة تجاوز القانون تبدو كما لو كانت سابقة للقانون نفسه، وهذا أكثر من كونه منطقاً يبدو مقلوباً هو في الواقع تأكيد على النزعة المتأصلة فينا نحن بني آدم إلى الالتفاف على أية وسيلة من شأنها أن تقيّدنا حتى إذا كانت هذه الوسيلة هي أفضل ما يمكن اختراعه لضمان مصالحنا.
بإيغال أكثر عمقاً مع القانون في الكتاب نفسه، نجد أن “القانون مسرحية لا تزال مشكلتها بعيدة عن براعة الممثلين في أداء أدوارهم”، وذلك لسبب في بساطة أننا بصفة عامة حتى بعد أن نقرّ بأن القانون مسرحية لا نلتزم بأداء أدوارنا المفترضة في المسرحية وإنما نبدو كما لو كنّا في حالة ارتجال مستمر ليس لضمان أكبر مساحة من الظهور على خشبة المسرح وإنما من أجل الخروج في نهاية المسرحية بريئين من دور المجرم. أمّا الأكثر دهاء والأشد قوة من بين الممثلين فإن طموحهم هو الخروج بدور البطل الذي تصفق له الجماهير وتتغافل عن مساءلته، أو حتى التساؤل حيالَ أنفسها، عمّا إذا كان صالحاً أم شريراً.
ليس من الممكن تشريع قانون كامل ولا تطبيق أحكام أي قانون بتجرّد مطلق، غير أن مشكلتنا مع القانون بعيدة عن استحالة الوصول إلى كمال منشود على أي صعيد، إنها تتجاوز ذلك بحيث تفضح نزوعنا المستمر إلى النقص ونحن ندّعي نشدان الكمال.
والحال كتلك، ليس من العدل أن يتبرّأ أي منّا من جريمة المشاركة في تلك التمثيلية. نحن لا ريب متفاوتون في مدى اجتراح قلوبنا وتلطّخ أيادينا بآثام تجاوز القانون، ولكننا جميعاً متواطئون في تمثيلية القانون بدرجة أو بأخرى.