شيء من الحرب وكثيرًا من الأمل
يوسف الشريف
يبدو أن الحديث عن جمال عبد الناصر وعن الحقبة الناصرية بكل ما تحمله تلك الفترة لن ينتهي، فمنذ لمع اسم عبد الناصر منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن وتقريبًا لا يوجد يوم يمر من الأيام إلا وذكر اسمه، ولا توجد سنة من السنوات إلا ووجدنا اسمه أو صورته، أو الأحاديث المتعلقة بنظامه وفترته تملأ الكتب والقصص والأفلام.
فهي فترة بلا شك مثيرة، وفارقة، وحساسة، تحتاج في كل لحظة الوقوف أمامها وتأملها طويلًا، وفي كتابه “شيء من الحرب” السلاح السري.. الصادر حديثًا عن دار ريشة للنشر والتوزيع، يعود الكاتب محمد توفيق إلى تلك الفترة الغنية بالتفاصيل، ولكنه يجد أرضًا جديدة في تلك المرحلة التي كانت محط أنظار الجميع، فنانين ومثقفين، مخرجين سينما ودراما وكتاب وسياسيين.
ليكشف محمد توفيق في كتابه عن “السلاح السري” هذا السلاح الذي كانت الدنيا بأسرها تعرفه، لكنها لم تستطع أن تقف أمامه، قد تُهزم الأسلحة الثقيلة، لكن هذا السلاح لا يمكن هزيمته أبدًا، قد تتراجع الدبابات لكن الكلمات لطالما كانت أقوى من طلقات الرصاص”.
هذا السلاح الذي استخدمه عبد الناصر بعد نكسة يونيو 1967، وكان بلا شك سببًا في انتصار أكتوبر 1973، وهو سلاح الفن والثقافة والعلم والإخلاص والتفاني والوطنية.
فبعد وقوع الهزيمة كان لا بد من النظر إلى الواقع والتعامل بشكل آخر معه، وتكوين رؤية جديدة، ولذلك “ابتسم جمال، وأكد لوزرائه أن الحياة لا بد أن تسير بصورة طبيعية، وأن الحرب لا تعني التفرغ للبكاء على الماضي، وسماع الأناشيد بقدر ما تحتم التفكير في المستقبل”.
“ومثلما واصل الجنود الليل بالنهار على الرمال في سيناء، واصل المطربون المكوث في طرقات الإذاعة، ولم يتنافسوا على الأعلى أجرًا، بل تنافسوا على الأغزر إنتاجًا، والأكبر حماسًا، والأكثر دعمًا للمجهود الحربي”.
هي معركة ساهم فيها كل فنانون مصر بكل إخلاص ومحبة، لا تقل أبدًا عن المعركة التي يخوضها الجنود ببسالة على الجبهة، فالفنان وفي جوهر الأمر هو جندي، يحارب الأفكار الهدامة، والمحبطة، والمتخلفة ويحاول التغيير، والمساعدة في التقدم. هذا جوهر الفن.
ولذلك نجد أن إدراك وإيمان الفنانين في هذا العصر بتلك الحقيقة كان عميقًا للغاية، فلم يبخل فنان في أن يبذل نقطة عرق من أجل رفع الروح المعنوية للأشخاص، يفعل الجميع ذلك سواء ممثلين أو مغنيين أو شعراء، بحب وإخلاص وتفاني، غير مجبر كما يحاول البعض أن يصور فمثلًا نرى أم كلثوم تقوم بعمل حفلات في كل الوطن العربي من المحيط للخليج، بل في عاصمة النور حيث باريس دعمًا للمجهود الحربي، وكذلك عبد الحليم حافظ، وبعض الممثلين. بل لم “يكتفِ الفنانون بالغناء، لكنّ بعضهم قرر أن يتدرب على ضرب النار، متمنيًا أن يُسمح له بالذهاب إلى جبهة القتال”.
وكما كان الفن وأهله داعمون للنظام الناصري لأقصى درجة وأبعد حد من أجل مصلحة الوطن، كان لا بد أن نرى الفن أيضًا يقوم بجزء آخر من رسالته وهو نقد بعض السياسات الخاطئة داخل الدولة، فنرى أن بعض الأعمال كانت بمثابة أحزاب معارضة للرئيس والحكومة.
“ظهرت المعارضة على شاشة السينما، وصار بعض الأفلام بمثابة أحزاب معارضة قوية، لها رأي، ورؤية، وموقف واضح من كل ما يجري على الساحة السياسية، واستطاعت أن تُعبر على شاشة السينما عمَّا يعانيه الناس”.
فبالرغم من نبأ الهزيمة المزلزل والقاسي والمحزن، على الجميع والذي جعل عبد الحليم وأصدقائه على رأسهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي يخرجون للشارع بعد خطاب تنحي عبد الناصر ليقولوا له فلتبقى في مكانك، أو عزلة أم كلثوم في بدروم فيلتها خوفًا من المستقبل، أو صدمة بليغ حمدي الذي جلس يحدث نفسه قائلًا.. ليه؟.. ليه؟.
فبالرغم من كل هذا إلا أن الجميع كان لديه إيمان عميق أن النصر قادم لا محالة، وأنه لا بد من رفع الثقة والوعي وهنا يأتي دور الفن.. ولذلك نرى أن في تلك الفترة تم تقديم بعض الأعمال التي تعد من أهم الأعمال الفنية في تاريخ الوطن العربي..
” يكفي أن تعرف أنه خلال ست سنوات فقط عرفت مصر الأفلام الأكثر جرأة، والأعلى إيرادات، والأكثر بهجة، وعُرضت في سينمات مصر 22 فيلمًا من بين المئة الأهم في تاريخ السينما.. وقد تتعجب حين تعلم أن أربعة من هذه الأفلام تم عرضها في شهر واحد فقط من عام 1969، وأن غالبيتها أنفقت عليه الدولة المصرية رغم أن بعضها ينتقد النظام، ويسخر من كبار المسؤولين”.
هكذا يؤرخ الكتاب للحرب التي تدور على الجبهة مع العدو الظاهر، والحرب الأخرى السرية التي قام بها الفنانين للم الشمل وتوحيد الصفوف، ففي اللحظة التي تقود فيها أم كلثوم حملات مختلفة لصالح المجهود الحربي مثل حملة التبرع بالذهب، يستشهد الفريق عبد المنعم رياض على الجبهة.
ففي صباح السبت، الثامن من مارس 1969، نجح الجيش المصري في أن يتسبب في خسائر كبيرة لجيش العدو، وتم تدمير جزء من مواقع خط بارليف ولكن في اليوم التالي ” قرر الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة، وحين حاول البعض ثنيه قال: «إذا حاربنا حرب القادة في المكاتب بالقاهرة فالهزيمة ستكون محققة، إن مكان القادة الصحيح هو وسط جنودهم وفي مقدمة الصفوف الأمامية.. ولم يكتفِ رياض بذلك بل قرر أن يقود المعركة من الموقع «66»، ذلك الموقع الذي كان أكثر المواقع المصرية قربًا من نيران العدو، وأول موقع فتح نيرانه على العدو، فلم يكن يبعد عن مرمى النيران الإسرائيلية سوى 250 مترًا فقط”.
وحتى بالرغم من وفاة من وصفه الفاجومي أحمد فؤاد نجم في يوم من الأيام بعمود الخيمة، دليلًا على أهميته في قلوب كل من عاش في تلك الفترة، وهو الزعيم عبد الناصر، فبالرغم من موته الصادم والمفاجئ والحزين.. وبالرغم من الجنازة المهيبة التي ربما كانت الجنازة الشعبية الأشهر في تاريخ الإنسانية جمعاء وليس في تاريخنا الحديث، إلا إننا نستطيع أن ندرك أن الهموم التي أثقلت قلب عبد الناصر لم تكن بالهموم التي يمكن أن يتحملها قلب إنسان، فبعد تعرضه لوعكات صحية وسفره للعلاج، نرى اندهاش الأطباء من عدد السجائر التي يدخنها عبد الناصر في اليوم والذي يصل إلى مئة سيجارة، هذا الرقم المفزع، ربما يصور لك حجم الصغط والتوتر والهم الذي كان يحمله هذا الإنسان بداخله.
ولكن بالرغم من كل شيء إلا أن الحرب والمعركة ظلت مستمرة، العدو الذي لا يعرف شيئًا عن الأمانة والشرف والذي قتل الأطفال في بحر البقر أمامنا، ولكي نحاربه وننتصر عليه لا بد من خوض معركة أشرس بكثير من المعركة العسكرية، وهي معركة لتوحيد الصفوف والاهتمام بالعلم والثقافة، ولتحقيق ذلك لا بد من أن يكون هناك إيمان حقيقي بقدرة الفن على التغيير… ربما هذا ما أدركه عبد الناصر منذ اللحظة الأولى.
ولعل كلمات عبد الناصر للجنود على الجبهة تصلح لتعبر عن حالة كل مصري سواء حارب من على الجبهة أو من موقعه في عمله..
“كل واحد فينا مستعد يموت ولا يضحي برملة من أرض بلده، ودا أشرف شيء لنا، إننا ندافع عن بلدنا”.