منذ عدة أعوام اكتشف مجموعة من الأشقياء النجباء مصيبة العالم العربي والإسلامي، حيث بحثوا وتعمقوا ووجدوا أن الشعراوي سبب دمار هذه الأمة، لم يتهموا السياسيين ولا الاقتصاديين ولا الزعماء ولا الرؤساء ولا رجال الأعمال ولا الإعلاميين ولا الكتاب ولا الصحفيين ولا إهمال التعليم ولا الفقر ولا الفساد.. لكنه الشعراوي هو السبب في الحال المأساوي الذي وصلنا له.
المدهش أن هؤلاء المستكشفين من المفترض اعتبارهم قادة للرأي وأساتذة في مجالاتهم ونوابغ العصر لكنهم يلقون بالمنهج العلمي في سلة المهملات ويكتفون بالإشارات والتلميحات لتكوين رأي صلب وقاسي وربما ساذج.
المنهج العلمي يجب أن يحلل الظاهرة (تدمير عقول الناس) ويبحث عن أسبابها على جميع المستويات (سياسية، اجتماعية، ثقافية.. الخ) ليكتشف الأسباب الحقيقية وراء التدمير.. علما بأننا نحتاج إثبات وجود (تدمير) من الأساس ويجب أن نحدد معنى (التدمير) لأن اختلافي معك واتجاهي نحو شيء لا يروق لك، لا يعني بالضرورة أن عقليتي متدمرة وعقليتك سليمة بل هي وجهات نظر.
وأنا أقول ذلك رغم أن الجملة في حد ذاتها تحمل أسباب نفيها، فأولا السياسة هي المحرك الأساسي للشعوب وهذا أمر واضح ومثبت علميا وراجع تاريخ مصر كمثال بسيط لتعرف أن البلد كلها أصبحت اشتراكية بما فيها الشعب ذاته بسبب عبد الناصر.. ثم مالت بقوة نحو اتجاه الإسلام السياسي بسبب السادات، ثم أصبحت بدون هوية واضحة بسبب مبارك، وهكذا، ومن الأصل يتصارع الناس على المناصب السياسية لقوتها وقوة تحكمها في الناس.
لا تنخدع إذن بتأثير الإعلام مثلا وتعتقد أنه يتحكم في الناس ويغير السياسات ويصنع العقول وإنما هو مجرد عامل محفز فقط، السياسة هي التي تتحكم في الشعوب. فهل يعقل أن يستطيع شخص واحد القيام بما تقوم به المؤسسات الحاكمة؟
قدم الشعراوي آلاف الساعات التليفزيونية كان خلالها يعرض تفسير القرآن وفي هذا الكم الكبير من الكلام كان مصيبا أو محقا أو طبيعيا في ٨٥٪ مما يقول وهي نسبة تقريبية قد تزيد أو تنقص، ثم قال أشياء خاطئة تماما ضد الفن وضد النكسة وضد غزو الفضاء، ماذا حدث حين قال هذا الكلام السخيف؟ هل وجدنا الشباب في اليوم التالي يتحركون اقتناعا منهم بكلام الشعراوي لمواجهة الحكومة مثلا؟ هل وجدنا حركة سياسية نشأت بناء على كلام الشعراوي لفرض رؤيته على المجتمع؟ هل هناك من اقتنع برأيه أن النكسة كانت شيئا إيجابيا لمصر؟ هل نجح في فرض حرمة نقل الأعضاء على المجتمع؟
لا لم يحدث.. لكنه تسبب في اعتزال مجموعة من الفنانات للفن.. ربما يكون ذلك صحيحا.. لكن هل ذلك معناه أن الفن انتهى أو تدمر أو حتى تأثر؟ هل اعتزال شادية أو حنان ترك أو حسن يوسف ترك الفن فارغا وتسبب في توقفه؟ لا لم يحدث.. مجرد مجموعة من الفنانين اختاروا طريقا مختلفا.
نقطة أخرى تتوه عن الجميع.. في معظم عصر الشعراوي لم يكن هناك سوشيال ميديا ولا يوتيوب ولا مواقع انترنت ولا هواتف ذكية، إذن عدد من يصل إليه كلام الشعراوي لم يكن بهذا الكم الذي تتخيلونه، وحتى لو وصل لهذا الكم الكبير (الملايين) فلم تكن هناك وسيلة للحفظ وإعادة النشر مثل الفيديوهات على اليوتيوب حاليا، فمن شاهد الشعراوي وهو يقول أن (النصارى علينا أن نتعايش معهم) لم يستطع -غالبا- إعادة المشاهدة مرة أخرى ولم يستطع نشره لأصحابه إلا شفهيا وبالتالي لم يكن بهذا التأثير الرهيب.. خاصة أنه لم يتغير شيء بعد هذا الكلام.
الفكرة بسيطة للغاية؛ بذل الشعراوي جهودا رائعة في عرض تفسير القرآن بأسلوب مبسط ومبتكر وعميق، لكن آراؤه كان فيها الكثير من الأخطاء وعدم التوفيق، وهو كغيره يصيب ويخطئ وهو كغيره فرد في المجتمع قد يؤثر في مجموعات من الناس لتواجده الإعلامي أو منصبه، لكن التأثير الأكبر يأتي من السياسة، أما ما يحدث حاليا من لغط حوله فسببه ليس تأثير ما قاله في حينه ،، وإنما بسبب انتشار مقاطع فيديو قديمة له على الإنترنت،، وهو ما جعل هؤلاء (المثقفون) يربطون الأشياء ببعضها ويستنتجون أفكار غير حقيقية وغير علمية ويقومون بحملات مناهضة لرجل توفي في 1998 أي منذ 25 عاما.
ربما يقصدون أن مقاطع الفيديو المنتشرة حاليا تؤثر على البعض.. طبعا ممكن.. لكن لنضع الموضوع في إطاره وحجمه ولا نبالغ.
إن هذا الاستدعاء الساذج للشعراوي والادعاء غير العلمي بأنه سبب تدمير العقول يدل على أن بعض هذه الشخصيات التي تأكل دماغنا ليل نهار باعتبارهم مثقفين.. ما هم إلا شخصيات عادية مذعورة ومستواهم الفكري محدود.