“تثير المؤامرات – ونظريات المؤامرة – بعضاً من القضايا الخاصة المتعلّقة بالثقة بالأفراد، كما بالمؤسسات والجماعات. يحتاج المتآمرون إلى وجود درجة من الثقة تجمع بينهم، لكن الوصول إلى مثل هذه الثقة قد يكون عسيراً إن كانت الرهانات الواقعة على المحك كبيرة، وذلك بفعل المخاطر المقترنة باكتشاف التآمر. كما يقتضي الإيمان بنظريات المؤامرة وجود حالة جوهرية من انعدام الثقة بالصور التقليدية عن العالم، وإلى جانبها وعلى النقيض منها، وجود مستوى عالٍ من الثقة بقدرة الحكومات والجماعات السرية على التحكم في التدفق العام للمعلومات”.
هكذا تحدثت الباحثة البريطانية كاثرين هاولي Katherine Hawley تحت العنوان الفرعي “نظريات المؤامرة” ضمن الفصل الثامن من كتابها Trust: Avery Short Introduction ، الصادر في ترجمته العربية بعنوان “الثقة” عن دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ضمن مشروع “كلمة” سنة 2021.
تكمل المؤلفة: “لكن ما المؤامرة؟ المؤامرة هي خطة أو فعل سري، ينخرط فيه أكثر من فرد واحد، ويهدف إلى تحقيق هدف سلبي ما. فالمؤامرة في نهاية المطاف مصطلح ازدرائي، وهو يفترض أن الأشخاص المنخرطين في مثل هكذا جماعات والذين يؤمنون بقيمة أهدافها لا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم متآمرين”.
تواصل هاولي في الفقرة التالية: “ما هي إذاً نظرية المؤامرة؟ قد نتبنّى تعريفاً واسع النطاق نسبيّاً، يرى في أيّ إيحاء بوجود تآمر تعبيراً عن نظرية مؤامرة. وعليه يمكن وفقاً لهذا التعريف النظر إلى بعض نظريات المؤامرة باعتبارها صحيحة، ومن المعقول تماماً تصديقها… أما إن نحن أردنا تعريفاً أكثر ضبطاً، فينبغي أن ينطوي على افتراض نجاح المؤامرة عموماً وعلى نطاق واسع، أي افتراض أن تكون قد نجحت في تحقيق غاياتها، وتدبّرت أمر هذا النجاح من دون أن تكشف عن دورها الحقيقي في ذلك”.
لأن كأس العالم لكرة القدم جزء من العالم بطبيعة الحال، ولأن الفيفا واحدة من المؤسسات البارزة في عالم اليوم، فضلاً عن كونها على الأرجح المؤسسة الرسمية الأبرز التي تملأ دنيا الرياضة وتشغل ناسها، فلا غرو أن تكون الفيفا مسرحاً يعجّ ويضجّ بحكايات المؤامرة ونظريتها، وذلك باستدعاء التناول الموضوعي للنظرية كما لدى كاثرين هاولي على سبيل المثال في كتابها القيّم المشار إليه في الفقرات السابقة.
التناول الموضوعي عظيم الفائدة بصفة عامة، وهو ضروري في مواضع بعينها، لكن هناك دوماً مستفيدون من الإفراط في الابتعاد عن الموضوعية، خاصة عند تناول مسائل ترتبط بالعاطفة وبالحماس بما يطغى على ارتباطها بأية عوامل ومؤثرات أخرى. في تلك المواضع لا يكون تجاوز الموضوعية هدفاً متعمداً تماماً في كل الأحوال، فالعاطفة المنجرفة تلقائياً تجعل أنصار أي فريق – من كافة المستويات – متحمسين له بما يجعلهم مستعدين في حال الخسارة لتلقّف أي مؤشر يدعم ظلماً من أي قبيل يمكن أن يكون فريقهم قد تعرّض له، ونظريات المؤامرة جاهزة في هذه الأثناء لتقديم كل ما يمكن أن يضمّد جراحات المهزوم، إنْ بالحق وإنْ بالباطل: بالحق عندما تكون ثمة مؤامرة بالفعل تبدّت ملامحها بقدر من الوضوح، وبالباطل عندما تكون المؤامرة مجرد وهْم/حلم يحاول المهزوم التشبّث به لتبرير الهزيمة.
وإذا كان شائعاً أن الحكومات في دول العالم الثالث المنهكة بمشاكلها الاقتصادية والسياسية تستغل رياضة كرة القدم بدرجات متفاوتة من أجل إلهاء الجماهير عند الحاجة إلى ذلك الإلهاء، وما أكثر ما تتكرر تلك الحاجة، فإن الأمر – على غير ما يظنّ كثيرون – ينطبق بطريقة مشابهة إلى حد ما على سائر دول العالم بما في ذلك الدول الأكثر تقدّماً على كل صعيد، ليس بالضرورة من أجل إلهاء الجماهير وإنما بصورة أساسية لإرضائها وإمتاعها، وربما لغير ذلك أيضاً من المصالح المادية. هنا تبرز المؤامرة ونظريتها الشهيرة إلى المشهد بقوّة لتفسير اتجاه سير الأحداث نحو ما يرضي الجماهير، أو على الأقل نحو ما يخفف من سخطها، لأقصى حد ممكن. هذا، ولا تكون المؤامرة في حال الدول الأكثر تقدّماً مباشرة من حكومة بعينها وإنما تأخذ بدورها في الغالب أشكالاً أكثر تقدّما وتعقيداً، وكالعادة يلفّها كل ما يلفّ نظرية المؤامرة من الشكوك المفتوحة على الاحتمالات المتباينة إلى حدّ التناقض.
في كرة القدم، ومع كأس العالم تحديداً، شكا الجميع تقريباً من نظرية المؤامرة، الفرق الكبيرة والنجوم الأساطير جنباً إلى جنب الفرق المتواضعة واللاعبين المغمورين عالمياً، بل ربما كان الكبار أكثر شكوى لأن أحلامهم وأطماعهم أكبر، ولا يمكن أن يَرضى الجميع، سواء في ظلال المؤامرة أو مع غيابها. ول…