الفصل الرابع من كتاب “نُوْسِعُها ضرباً وحُبّاً” لماذا يطغى المونديال على الألعاب الأولمبية
“من أوروغواي عام 1930، حيث رأت بطولة كأس العالم لكرة القدم النور لأول مرة، إلى الآن، تاريخ عريق يحمل بين دفتيه قصة الصراع على زعامة العالم كروياً. كانت ولادة بطولة كأس العالم لكرة القدم ولادة عسيرة، فقد استغرقت عملية ولادة هذا المهرجان الرياضي الذي تتجه إليه أنظار الملايين 26 عاماً. ظهرت فكرة تنظيم بطولة كرة قدم عالمية في 21 مايو عام 1904 في مدينة باريس عاصمة فرنسا، لكنها لم تر النور إلا في مونتفيديو عاصمة أوروغواي في يوليو عام 1930. (كان) أول اجتماع للاتحاد الدولي لكرة القدم في 21 مايو 1904 في باريس، و(قد) حضرته الدول المؤسسة لتلك الهيئة الوليدة، وكانت: فرنسا وبلجيكا وسويسرا وهولندا وإسبانيا والسويد والدنمارك. جاء في نبد اللائحة التأسيسية للاتحاد الدولي لكرة القدم، أنه إذا أقيمت مثل هذه البطولة في المستقبل – القريب أو البعيد – فيجب أن تُنظَّم تحت إشراف الاتحاد الدولي. وتدين هذه البطولة العالمية بالفضل للمحامي الفرنسي جول ريميه Jules Rimet، الذي تولى رئاسة الفيفا في مؤتمر الاتحاد السنوي الذي عُقد في مدينة أنتويرب البلجيكية Antwerpen/Antwerp في عام 1920 واستمر في هذا المنصب حتى عام 1954”.
هكذا نتابع نشأة البطولة الرياضية الجاذبة لملايين المتابعين حول العالم كما وردت في “ركلة البداية” من كتاب “موسوعة كأس العالم” للدكتور ياسر ثابت عن دار دوِّن بالقاهرة سنة 2022. في المقابل، سبقت بداياتُ مسابقات الألعاب الأولمبية الحديثة بداياتِ بطولة كأس العالم لكرة القدم بأكثر من ثلاثين سنة. نقرأ نقلاً عن ويكيبيديا الإنجليزية: “تم استلهام إنشاء (الألعاب الأولمبية الحديثة) من الألعاب الأولمبية القديمة (باليونانية القديمة: Ὀλυμπιακοί Ἀγῶνες) التي أقيمت في أولمبيا باليونان من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي. أسس البارون بيير دي كوبيرتان Pierre de Coubertin اللجنة الأولمبية الدولية IOC عام 1894، مما أفضى إلى (قيام) أول دورة ألعاب حديثة في أثينا عام 1896. اللجنة الأولمبية الدولية هي الهيئة الإدارية للحركة الأولمبية Olympic Movement (التي تضم جميع الكيانات والأفراد المشاركين في الألعاب الأولمبية) مع الميثاق الأولمبي الذي يحدد هيكلها وسلطتها”.
إذا كان الفارق بين بداية كأس العالم لكرة القدم وبطولة الألعاب الأولمبية الحديثة أكثر من ثلاثين عاماً كما رأينا، فإن ما بين نشأة كرة القدم نفسها (كما نعرفها اليوم) والظهور الأول للألعاب الأولمبية هو قرابة الثلاثين قرناً من عمر الزمان. ظهرت الألعاب الأولمبية القديمة في أولمبيا باليونان في القرن الثامن قبل الميلاد بينما تعود البدايات الموثّقة لأول قوانين تحكم كرة القدم إلى كامبريدج البريطانية منتصف القرن التاسع عشر. أما إرجاع نشأة ألعاب ركل الكرة إلى ما قبل الميلاد فلا يعدو كونه مغالاة نظرية في التأصيل إذا أريد له أن يكون ذا صلة وثيقة بكرة القدم التي نعرفها اليوم، فبحسب ويكيبيديا الإنجليزية كانت الألعاب القديمة لركل الكرة (فينيندا Phaininda وإيبيسكروس Episkyros وهارباستم Harpastum) تتضمن استخدام اليدين والعنف! ما يجعلها أقرب إلى كرة الرجبي والمصارعة والكرة الطائرة أكثر منها شبهاً بكرة القدم الحديثة.
ولكن شعبية أية رياضة، أو أي نشاط بصفة عامة، ليست لها علاقة بأقدمية النشوء قدر ما هي مرتبطة بإقبال الناس على تلك الرياضة سواء بالممارسة أو المتابعة والتعليق. اللافت مع كرة القدم تحديداً كما رأينا تحت عنوان “المنطقي واللامنطقي في كرة القدم” أن جماهيرية اللعبة لا تطغى على كل لعبة أخرى منفردة فحسب وإنما تكتسح الألعاب الأخرى مجتمعة، الأمر الذي يتبدّى في جماهيرية كأس العالم لكرة القدم وهي تطغى على جماهيرية الألعاب الأولمبية. هذا وتكفي الكلمتان “كأس العالم” لانصراف الأذهان إلى بطولة كرة القدم دون غيرها من بطولات كأس العالم للكرات التي تُركل بالقدمين أو تلك التي يتم التعامل معها باليدين أو المضرب أو غيرها من الرياضات التي تستخدم أدوات غير الكرة أو حتى الجسم مجرّداً.
من الممكن القول بأن عشرات المسابقات في الألعاب الأولمبية تشتّت الانتباه فلا تجعل أيّاً من الألعاب تستأثر باهتمام مميز يفوق الأخريات بوضوح، ولكن هذا يصلح تبريراً لعدم استئثار لعبة منفردة بأضواء المسابقات الأولمبية أكثر من كونه مبرراً مقبولاً لتفوّق بطولة كأس العالم لكرة القدم عالمياً على سائر البطولات الرياضية الأخرى وفي مقدّمتها الألعاب الأولمبية.
الأرجح أن شعبية كأس العالم لكرة القدم نابعة ابتداءً من شعبية لُعبة كرة القدم نفسها، وهنا سيغدو التبرير الذي لا يزال محفوفاً بالتحديات هو الإجابة على السؤال: لماذا تطغى شعبية لعبة بعينها على شعبية الألعاب الأخرى منفردة، بل ومجتمعة أيضاً، بالقياس العالمي وليس في رقعة جغرافية محددة محلياً أو إقليمياً؟
يمكن لأي منّا أن يتبرع بالعديد من الأسباب التي تفسّر ولعه الشخصي بكرة القدم وما يظنّه مدعاة إلى طغيان جماهيرية اللعبة على سائر الرياضات على الصعيد العالمي، غير أن السبب الأبرز عندي – أو على الأقل أحد أبرز الأسباب – يبدو في كون كرة القدم هي اللعبة التي بإمكان الجميع أن يمارسها بأقل تكلفة ممكنة، وغالباً من دون تكلفة مادية أو عناء يذكر في الإعداد. على سبيل المثال، تحتاج كرة السلة إلى سلّتين مثبتتين بإحكام على طرفي الملعب، وتحتاج الكرة الطائرة إلى شبكة مثبتة بإحكام وسط الملعب، وبالإضافة إلى شبكة وسط الملعب تحتاج كرة المضرب (التنس) إلى مضرب خاص بكل لاعب. مقابل ذلك، يمكن لواحد وعشرين لاعباً أن يصنعوا المرمى من مجرد حجرين يحددان طرفي المرمى وأن يلعبوا بكرة واحدة يتشاركون ثمن شرائها أو حتى صنعها ذاتياً من مواد خام بسيطة لا تتعدّى مجموعة من الجوارب البالية.
برغم كل ما يمكن تقديمه من تفاسير وتبريرات، تظل جماهيرية كرة القدم وبطولتها العالمية الأوسع شهرة، ليس في إطار البطولات الرياضية وحدها وإنما على الأرجح في إطار المهرجانات العالمية على مختلف الأصعدة، تظل تلك الجماهيرية قابلة للتفسير والتبرير فقط استناداً إلى سهولة تفسير وتبرير ما تحقق نجاحُه وتألُّقُه بالفعل وليس بما يضمن نجاحاً وتألقاً مماثلين للعبة أخرى يُسعى إلى تضمينها عواملَ النجاح والتألق التي وردت في أي من التفاسير والتبريرات.
بذلك، تصبح “الساحرة المستديرة” – في هذا السياق – مجرد كلمة تدلّ على الإعجاب إلى حدّ الافتتان بكرة القدم، ليس إلّا. فلو كان مناط السحر هو الاستدارة لنافست كرةَ القدم في الجماهيرية العالمية كرةُ اليد أو كرة السلة أو الكرة الطائرة أو كرة الماء، أو حتى كرة الطاولة.