على الرغم من أن تسمية اللاعب الأكثر إحرازاً للأهداف (الهدّاف) في أي من البطولات أمر لا يعتمد على أكثر من إحصاء الأهداف التي سجّلها اللاعب في البطولة، وهو ما يمكن لأي متابع تحديده ببساطة، فإن تسمية الهدّاف على مدار سلسلة بطولات محلية أو إقليمية أو عالمية، أو على مدار تاريخ كرة القدم، أمر يحتاج إلى عمليات إحصائية ليست سهلة في كل الأحوال. تصبح المسألة أحياناً مثاراً للجدل لأسباب بعينها، مثلاً عندما يتم إلغاء هدف أو أكثر من الحساب للاعب مرشح للّقب لأن المباراة/المباريات التي شهدت تسجيل الهدف/الأهداف لم تكن ضمن إطار معترف به من جهة رسمية كالفيفا أو حتى الاتحاد المحلي لكرة القدم.
هذا عن الهدّاف بمعنى الأكثر إحرازاً للأهداف، أما أفضل الهدّافين فهو لقب مثار جدل آخر، فقد يحظى باللقب – غير الرسمي بالضروري – على أي صعيد لاعب عُرف عنه إحراز أهداف بالغة الصعوبة من فرص شبه مستحيلة، أو آخر اشتهر باختراق كراته شباكَ مرمى الخصم في نهائيات المسابقات الكبرى بما يضمن تتويج فريقه بكؤوس ثمينة وليس مجرد إحراز لقب شخصي، وهنا سيبرز على سبيل المثال الإيطالي باولو روسي بوصفه نجماً استطاع خطف الأنظار بتأثير قصة درامية فريدة تخللت مسيرته الكروية قبيل بطولة كأس العالم سنة 1982 ومساهمته المباشرة في تتويج بلاده بتلك الكأس وليس فقط لمجرّد إحرازه لقب الهدّاف في البطولة نفسها.
إذا كان لقب هدّاف لا يخلو من الاختلاف والجدل على نحو ما ألمحنا في هذه المقدمة باختصار شديد، فلا ريب أن لقب أمهر لاعب سيكون مداراً لجدال لا يكاد ينتهي إلى نتيجة حاسمة على أي صعيد. أما الجدال الأكثر تعقيداً فهو ما يثيره لقب أفضل لاعب، وذلك بالنظر إلى المراد من الأفضلية، فضلاً عن الانحيازات الشخصية التلقائية التي لا يكاد يسلم منها أحد عند التقييم.
برغم كل ذلك لا يبدو الجدال مطلقاً دون قيود، فقائمة الأمهر على مدار تاريخ اللعبة تشمل لاعبين كُثر ولكنهم محدودون مهما يتّسع نطاق المقارنة زماناً ومكاناً. ستشمل القائمة المقترحة للّاعب الأمهر على امتداد تاريخ اللعبة في الغالب أسماء بيليه، كرويف، غارينشا، بوشكاش، جورج بيست، مارادونا، رود خوليت، رونالدو (الظاهرة)، رونالدينيو، زين الدين زيدان، ميسي، نيمار، على سبيل المثال بطبيعة الحال. سيدلي كل متابع لكرة القدم دلوه الخاص بحيث تطول قائمة المرشحين للقلب اللاعب الأمهر (ليس الأفضل بالضرورة) ولكن ليس دون قيود كما أشرنا، فمتابعو الكرة المهووسون – فضلاً عن نقّادها المحترفين – يمتلكون بصيرة التمييز بين اللاعب الأمهر وبين اللاعب الهدّاف أو حتى اللاعب الأفضل بصفة عامة من حيث الأداء والتأثير في الفريق، وذلك دون إغفال تأثير الميول الشخصية ونسبية الأحكام على كل حال.
بيليه اسم يتجاوز المهارة المحضة إلى التأثير البالغ في تاريخ كرة القدم مجملاً، وهو بموازاة ذلك هدّاف صاحب أرقام قياسية صمدت طويلاً. الأمر نفسه ينطبق على دييغو مارادونا، لذلك فإن التفصيل في شأن مكانتهما الكروية أولى به مقام آخر يدور حول اللاعب الأفضل في تاريخ كرة القدم لا الأمهر فحسب.
تشترك الأسماء الواردة قبل فقرتين في مهاراتها الفريدة مع الكرة، وتحديداً في مهارة المراوغة. بوشكاش صنع تاريخاً للمجر لا أظن أن مجرياًّ قبله أو بعده قد قاربه في ذلك الإنجاز، حتى إن اسم المجر في عالم كرة القدم يكاد يرتبط ببوشكاش وحده. غارينشا يكفيه شرفاً كروياً أن البعض لا يزال يراه الأكثر مهارة على مدى تاريخ اللعبة رغم معاصرته لأسطورتها بيليه. رود خوليت كاد يزاحم مارادونا على لقب اللاعب الأفضل لبضع سنوات، ليس وفقاً للألقاب والإحصائيات الرسمية فقط وإنما لدى بعض نقاد الكرة وعشاقها بصفة عامة كذلك، كما زاحم خوليت الأسطورة الهولندية كرويف فلم يدعه يهنأ طويلاً بصفة الهولندي الأوحد ضمن قائمة الأمهر في تاريخ اللعبة عالمياً.
مهارات المراوغة الفريدة لبقية الأسماء التي شملتها القائمة المذكورة على سبيل المثال – والمهارات الأخرى لما يمكن أن يضاف إلى القائمة من أسماء – لا تحصى في مقام عاجل، لذلك سنكتفي بالوقوف في مقامنا هذا على اثنين من أبرز المرشحين للقب الأمهر في تاريخ اللعبة، واللذين يصعب أن تخلو منهما قائمة تصدر من أية جهة على هذا الصعيد: البرازيليان رونالدو الملقّب بالظاهرة ورونالدينيو.
رونالدو لويس نازاريو دي ليما كان ظاهرة بالفعل عندما يتعلّق الأمر بالمهارة، وتحديداً المراوغة. كان مهاجماً ببنية قوية لمدافع جسور، ما مكّنه من اختراق خصومه المدافعين مراوغاً بجسارة وثقة في زمن لم تكن الفيفا – كما يقال بصدق – قد أضافت فيه إلى اللعبة المزيد من القوانين التي ضمنت لاحقاً حماية أكثر للمهاجمين ومن ثم فرصاً أعظم لإمتاع وإسعاد الجماهير بالمزيد من الأهداف. قال عنه مارادونا ما مفاده أن رونالدو كان يراوغ بمهارة منطلقاً دون توقف، بينما نحن (الكلام لمارادونا) نتلفت عند المراوغة لنرى ماذا نفعل بالكرة (عقب التخلص من مدافع عنيد). هذه شهادة ليست فقط من مراوغ شديد المهارة، بل من أحد أساطير كرة القدم عبر الزمان، وأحد أبرز المرشحين بقوة للقب اللاعب الأفضل في تاريخ اللعبة.
تلك ملاحظة سديدة من مارادونا، فرونالدو بالفعل كان كذلك، ينطلق بالكرة مراوغاً لا يلوي على أحد، يتخلص من أحد الخصوم ليراوغ الذي يليه وينطلق في اتجاه المرمى دون أن يعبأ بمن يقف في طريقه، بل لعله كان ينطلق باتجاه الخصم وليس المرمى طمعاً في المزيد من متعة المراوغة، حتى إن الواحد يخاله في أبهج لحظاته عندما يجد نفسه في زحمة من لاعبي الخصم متكدسين حوله ليتملص منهم واحداً تلو الآخر، وأحياناً مجموعة تلو الأخرى لينفرد بالحارس. وهنا تكمن خصوصية أخرى للّاعب البرازيلي الفريد، فهو لا يسدد بعدها في المرمى وإنما يصر على مراوغة الحارس، رغم ما في ذلك من مخاطرة كبيرة بإضاعة فرصة التهديف الذهبية، لكنه ينجح عادة في مراوغة الحارس ببساطة ليودع بعدها الكرة في شباك مرمى الخصم كيفما اتفق، فذروة النشوة الكروية عنده تبدو في الإمعان في المراوغة وليست في تمزيق شباك مرمى الخصم بتسديدة بهلوانية أو أخرى صاروخية.
معاصرُه رونالدينيو كان من طراز مماثل من اللاعبين الذين يرون في المراوغة هدفاً منشوداً لذاته بداعي المتعة. ولعل رونالدينيو الأقرب إلى إحراز لقب أمهر اللاعبين في تاريخ كرة القدم، ليس فقط فيما يتعلق بمهارة المراوغة وإنما مهارة التحكّم في الكرة وحساسية الاستجابة لها. تعج مقاطع الفيديو على الإنترنت باستعراض مهاراته المختلفة: التحكم بالكرة وهو معصوب العينين، تصويب الكرة نحو العارضة لإصابتها وارتدادها من مسافة بعيدة بضع مرات متتالية، تمرير الكرة لزملائه بلمسة خفيفة من ظهره، وهلمّ جرّاً.
لدى المقارنة مع رونالدو (الظاهرة)، يتفوّق رونالدينو لإمكانياته التي تتجاوز مهارة المراوغة البديعة للخصوم. رونالدو كان بالغ البراعة في المراوغة ولكن غالباً وهو يدحرج الكرة على الأرض، في حين برع رونالدينيو في التحكم بالكرة أرضاً وجوّاً وبحساسية فريدة من معظم أعضاء الجسد التي يمكن من خلالها أن يتعامل لاعب مع الكرة.
إذا كان الإجماع على تسمية اللاعب الأمهر في تاريخ الكرة مهمة مستحيلة، أو شبه مستحيلة على الأقل، فإن ما يبدو أيسر على هذا الصعيد هو تمسية الفريق/البلد الذي يضم أكثر عدد من اللاعبين الأمهر على مدى التاريخ. ألا تبدو البرازيل جديرة بذلك اللقب، سواء على مستوى المهارات الفردية أو جماليات اللعب الجماعي، تلك المهارات والجماليات التي دفعت البرازيل في كثير من الأحيان ثمنها خسارةَ العديد من المباريات بل البطولات القارية والدولية المهمة؟
مهما يكن، يبدو تحديد الأمهر في كرة القدم مهمة شائكة لاختلاف مرجعيات الأحكام التي تستند في هذا المقام على الأهواء الشخصية المتعلقة بالانحياز إلى مدرسة كروية أو أسلوب لعب بعينه، الأمر الذي لا يسلم من الوقوع في شباكه أيٌّ من المتابعين أو المختصين على حدّ سواء. أمن أجل ذلك يا تُرَى أغفلتُ في هذا المقام الإسهابَ في الحديث عن مهارة ليونيل ميسي؟