نسمة سمير محمد القس
“الدخول في قلوب المصريين، وإضحاكهم ليس أمرًا سهلًا بل أعتبره إنجازًا كبيرًا لأي ممثل؛ لأن الجمهور المصري لا يوجد في قاموسه حلًا وسطًا، إما أن يقبلك أو يرفضك”.
كلمات عميقة صادقة عبّر بها الفنان محمد القس عن رؤيته الخاصة للضحك، مما يوضح أنه ممثل يحمل فلسفةً ذات مناهج خاصة، إذ يرى الكوميديا التي يشاهدها الجمهور كالفكر قابلة للرفض أو القبول، ويتقاطع تعبيره ذلك مع مقولة “المضحكات ليست بالقليلة؛ ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون”، الواردة في كتاب “جحا الضاحك المضحك” للأديب عباس محمود العقاد.
View this post on Instagram
الكوميديا لها أشكال عديدة ومناهج مختلفة، وفي وسط هذا التنوع راح محمد القس يفتش عن فلسفة خاصة به. منطقة بعيدة عن جميع ما تم طرحه من قِبَل الفنانين في الوطن العربي. لم يرغب في تقليد كوميديان ناجح أو الاستسهال بالضحك المضمون، فصنع لنفسه منهجًا خاصًا به يجعلك بمجرد رؤيته تسمع صوته دون أن ينطق كلمة واحدة، فتضحك لأنه غرس في ذهن المشاهد صورة حية له تُستدعى عند ذكر اسمه أو مشاهدته على الشاشة.
لذا، محمد القس لا يشبه إلا نفسه، لا يمكن أن تقول إنه يسير على نهج فنان ما؛ ولكن تجد نفسك أمام فنان له بصمة خاصة به مثل بصمة اليد لا تكرر مرتين، حتى في شخصياته التي يؤديها لن تجد شخصية تشبه الأخرى، وكأنك كل مرة ترى شخصًا مختلفًا، أعتقدُ أنه في كل عمل يرى نفسه مختلفًا، وكأنه ينسلخ عن جلده ويرتدي جسدًا آخر يتصارع معه في البداية حتى يمتزج به وينسى شخصيته الحقيقية، مما يجعلك تتعلق بالشخصية التي يؤديها وترغب في أن تكون موجودة في الحياة بالفعل!
ظهرت فلسفة محمد القس جلية في الجزء الثاني من مسلسل “موضوع عائلي“، فقد تحولت الشخصية التي يؤديها تحولًا جذريًا من شرير خفيف الظل إلى شخص يخاف من شقيقته، مما وضعه في امتحان صعب، وهو كيف سيُظهر ذلك التحول مع الحفاظ على شخصية “غازي” التي عشقها المصريون؟
هنا أخرج محمد القس من جعبته كتابه السري الخاص به، وأخذ الشخصية إلى مكان جديد لكن مع الحفاظ على روحها الأصلية، وجعل الناس يتساءلون عن وجوده في كل حلقة، ويحزنون عندما لا يظهر في حلقة ما، والذي أكد ذلك ظهوره في الحلقة العاشرة، والتي أحدثت ضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث رحب الناس بظهوره بشدة، وطالبوا أن يظهر في كل حلقة بأكبر عدد من المشاهد، مما يبرز مدى تأثير حضوره.
وفلسفة محمد القس لا تعتمد على الإفيهات، ولكن رؤاه الفلسفية للضحك تلعب على البعد النفسي للشخصية التي يؤديها، وكأنما يقول لنا: “كل شخص منا له جانب جاد وآخر هزلي، وعندما يظهر الجانبان معًا، هنا تُخلق الكوميديا”.
لا يوجد مبدع لم تكن في حياته رحلة غيرته، ورحلة محمد القس بدأت منذ طفولته عندما انتقل من سوريا إلى السعودية، وهناك التقى بجنسيات عديدة، منها السعودي واللبناني والمصري والسوداني والهندي والباكستاني، ليصنع ذلك التنوع نقطة قوة لديه، وهي اللعب باللهجات، ربما وقتها لم يكن يعلم ذلك، فالحياة وسط المحن تهدينا مِنَحًا لا ندركها إلا فيما بعد. تلك اللهجات ساعدته أن يتجول كرحالة فن في دول عديدة ليقدم شخصيات مختلفة.
لم يهمل الفنان السعودي ذو الأصل السوري تلك المنحة بل عمل على إبرازها في أعماله، مما يجعلك أحيانًا تتساءل عن جنسية ذلك الفنان الذي يتحدث بالمصري والسعودي والسوري واللبناني في مشهد واحد، ويقول عن نفسه: “حمصي تجميع سعودي”، ولكن في حقيقة الأمر هو تجميع أكثر من بلد صبغ روحه بألوان مختلفة، وعندما تنظر في عينيه ترى فيهما حكايات كثيرة لم تُروَ بعد.
لا يُمكن حصر محمد القس في الكوميديا فقط، فهو لاعب متنوع ما بين الكوميدي والتراجيدي، وله العديد من الأعمال التي خرج فيها من عباءة الكوميديا، مثل فيلم “المغادرون” والذي حصل عن دوره فيه على جائزة أفضل ممثل في مهرجان أفلام السعودية عام 2017.
وهو يؤكد بذلك على أن الفنان لا يمكن حصره في نوع محدد؛ ولكنه طائر طليق يقدم كافة الأدوار بنفس البراعة والإتقان، فيجعلنا نضحك وبنفس القوة، قادر على جعلِنا نبكي بشدة، إذًا، فهو ليس فيلسوفًا في الكوميديا فقط، لكنه فليسوف في التمثيل بشكل عام.
دم جديد يُضَخّ في قلب الفن
“حبيبي .. حبيبي”. من المؤكد أنك سمعتها الآن بصوت محمد القس، نادرًا ما يترك فنان جملة تظل عالقة في عقل الجمهور ولسانه، ولكنه نجح في ذلك بسهولة الماء الجاري، ليرسم طريقًا مميزًا يشدو فيه منفردًا.
ناهيك بتمكنه من استخدام أدواته كممثل، بتلون نبرات صوته وملامح وجهه وحركات جسده واهتمامه بأن يكون مظهره طبيعيًا فيغير في شكله حسب كل دور، تجده يطيل شعره تارة ويقصه تارة أخرى وفقًا لطبيعة الشخصية التي يجسدها ولا يعتمد على الشعر المستعار.
فرصة يجب اقتناصها. بهذه الجملة يمكننا وصف محمد القس، فهو فنان متمكن ومميز، ليس الجمهور فقط من رحّب به؛ ولكن أيضًا الفنانون المصريون لما رأوه فيه من موهبة وإخلاص للتمثيل. السؤال هنا: هل سيستفيد صناع الفن من موهبته ويعطونه المساحة التي يستحقها لضخ دماءٍ جديدة في قلب الفن؟.