قد يبدو غريباً أن نجيب مباشرة منذ البداية على السؤال “من هو اللاعب الأفضل في التاريخ؟” بأنه لا يوجد لاعب بعينه يمكن اعتباره الأفضل على مدى تاريخ كرة القدم.
تتلاشى الغرابة ليس فقط عندما نتذكّر أن المرجعيات نسبية ولا يمكن الإجماع على أي حُكم في أي صعيد، بل بصورة أكثر تحديداً عندما نستحضر أن مجالات الأفضلية متعددة وواسعة، فالأفضل تتعلق بالمهارة وإحراز الأهداف وقيادة الفريق والتأثير في الجماهير وثبات الأداء الجيد بصفة عامة على المدى الطويل، ذلك على سبيل المثال لا الحصر. غير أن هذا سيعيدنا مجدداً إلى تأثير نسبية الأحكام، إذ غالباً ما سيدافع مَن يصرّ على منح اللقب للاعب بعينه بأن ذلك اللاعب هو “الأفضل” بأخذ مجمل العوامل المؤثرة في الاعتبار حتى إذا تفوّق عليه لاعب أو لاعبون آخرون في واحد أو أكثر من العوامل الأخرى. وقد رأينا تحت عنوان “أمهر لاعب في التاريخ” أن لقب اللاعب الأكثر إحرازاً للأهداف نفسه لا يسلم من النسبية باختلاف المرجعيات التي يتم الاستناد إليها في حساب الأهداف، فعلى سبيل المثال ثمة من الأهداف ما لا يُحتسب في بعض المباريات الودية، وهناك ما يتم الاعتراف به فقط من قبل جهة رسمية تصدر تقييماً محلّياً أو إقليمياً، وثمة من الأهداف ما يتعلّق بمباريات قديمة بقيت فقط في ذاكرة ووجدان قدامى المتابعين دون أن يكون لها أي تسجيل بالصورة أو الصوت أو حتى مجرّد التدوين الموثوق به، ما يحدو بأسباب على تلك الشاكلة إلى أن تجعل حتى لقب الهدّاف محلّاً للجدل.
في الوقت نفسه تجعل كثرةُ العوامل – التي يتم تقييم اللاعب الأفضل بناءً عليها – قائمةَ اللاعبين المرشحين للّقب قصيرة، بل قصيرة جداً. وعليه فإن أفضل لاعب في تاريخ كرة القدم كان إلى بدايات الألفية الجديدة لقباً مقتصراً تقريباً على بيليه ومارادونا، حتى إن الفيفا منحت جائزة لاعب القرن (العشرين) لكلا اللاعبين مناصفة.
تفاصيل فوز الأسطورتين الكرويتين بالجائزة تُبيّن مدى تعقيد الحكم كما أشرنا بدايةً، فقد صوَّتتْ الجماهير عبر الإنترنت لصالح الأسطورة الأرجنتينية بفارق كبير (53.6% لمارادونا مقابل 18.53% لبيليه). هذا، وقد كانت حجة أنصار بيليه منطقية، فمُصوّتو الإنترنت في معظمهم من أجيال لم تشاهد بيليه على الملاعب لذلك كان طبيعياً أن ترجح كفة مارادونا. وعندما احتكمت الفيفا إلى لجنة من المحكِّمين الأكثر اختصاصا تضم خبراء وصحفيين رياضيين اختارت اللجنة بيليه بفارق عظيم: 72.75% لبيليه مقابل 6% فقط لمارادونا الذي حلّ ثالثاً وفق تصنيف الخبراء بعد مواطنه ألفريدو دي ستيفانو الذي جال وصال في المستطيلات الخضراء منتصف القرن الماضي.
هل من الممكن إذن القول بأن مارادونا هو الأفضل في نظر الجماهير بينما بيليه الأفضل في نظر النخب المتخصصة؟ ليس من السهل بحال القطع بذلك، فقد رأينا للتوّ أن سبباً من قبيل معاصرة المشاهدين المقيِّمين للّاعب موضع التقييم قد منحت أفضلية واضحة لمارادونا على بيليه، فلو أتيح افتراضاً حصر تصويت الجماهير عبر الإنترنت على أعداد متساوية من المصوّتين على الجانبين – الذين عاصروا بيليه مقابل مَن عاصروا مارادونا – لأصبحت نتيجة التصويت على الأرجح متقاربة إن لم تكن متساوية بين اللاعبَين عظيمَي التأثير.
من المثير كذلك تأمُّل ما خفي من الأسباب المؤثرة على الحكم، فمثلاً علاقة مارادونا – الثائر أبداً – لم تكن دائماً حسنة مع الجهات الرسمية وشبه الرسمية سواء داخل الفيفا أو في وسائل الإعلام، بل غالباً ما اتسمت تلك العلاقة بمنغّصات تصل في كثير من الأحيان إلى درجة الصدام المباشر والعنيف، وعليه فإن حكم النخب الكروية المؤثرة حينها كان من المتوقع ألّا يصبّ في صالح مارادونا مهما ادّعت تلك النخب الحيادَ والموضوعية في تقييمها.
وإذا كانت تصريحات دييغو مارادونا النارية ومواقفه الحادة سبباً سهلَ القراءة ومباشراً في التأثير على الحُكم بالنسبة لكثير من المسؤولين والصحفيين الذين لم تكن تعجبهم مواقفه أو نالت بعضَهم سياطُ آرائه القاسية، فإن المزاج في تفضيل أسلوب لعب بعينه سببٌ شديد التعقيد يدفع حتى أرفع المتخصصين وأكثرهم اتزاناً إلى الابتعاد عن الموضوعية بدرجة أو أخرى عند الحكم. ليس مستغرباً إذن أن نتخيّل أن نتيجة التصويت كانت ستغدو مختلفة (حتى لو لم تنقلب تماماً) لو أن الفيفا أوكلت مهمة التصويت إلى مجموعة أخرى من الخبراء، أما شبه المؤكد فهو أن النتيجة ستختلف بوضوح لو أن لجنة الخبراء كانت من خارج الفيفا أو أية جهة رسمية لفحها الأسطورة الأرجنتينية بسياط لسانه اللاذع.
ولأننا نتكلم عن أفضل لاعب في التاريخ وليس خلال القرن العشرين وحده، علينا ألّا ننسى أن أيّاً من كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي لم يكن قد ظهر بعد ولمع نجمه في سماوات كرة القدم إبّان تقييم الفيفا سابق الذكر، وعليه فإن مهمة لجنة خبراء من أي قبيل ستصبح اليوم أكثر تعقيداً بدخول مرشّحَين آخرَين – على الأقل – في القائمة القصيرة للّاعب الأفضل، في حين أن أصوات الجماهير المعاصرة والمؤثرة على الإنترنت لن يتغيّر بشأنها طبيعة أحكامها شيءٌ سوى أن اسمَي أسطورتَي القرن العشرين بيليه ومارادونا سيغيبان عن حسابها على الأرجح لصالح أسطورتَي بدايات القرن الحادي والعشرين ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو، وإن تكن مهمة جماهير إنترنت اليوم ستغدو بدورها حافلة بإشكالياتها الخاصة – مع الانطباعية تحديداً – لأنها لن تتوزع في الحكم بين نجم شاهدته وآخر سمعت عنه وإنما بين نجمين شاهدت كليهما على الملاعب وكثيراً ما كان أحدهما في مواجهة الآخر مباشرة في المسابقة نفسها بل الدوري نفسه.
اختيارات اللاعبين عظماء التأثير تُظهر بدورها صعوبة وتعقيد الحكم من جهة، لكنها من جهة أخرى تظهر تأثير الجوانب الشخصية الطاغية بوضوح عند الحديث عمّن هو الأفضل.
بيليه ليس ثورياً مثل مارادونا بل هادئ الطبع لا سيما خلال تصريحاته في أغلب الأحيان، ولا غرابة في أن يلمّح إلى أنه يرى نفسه الأفضل، فقد ظل الرجل منفرداً تقريباً بالأضواء المسلّطة على قمة كرة القدم العالمية حوالي عقدين من عمر كرة القدم الشابة حينها بالحساب رجوعاً إلى أول بطولة كأس عالم.
أما مارادونا فهو الثائر “الانطباعي” بامتياز، ليس لأنه يرى نفسه الأفضل بقدر ما تكمن ثوريّته وانطباعيّته على هذا الصعيد في قائمته التي تضم الثلاثة الأفضل: مارادونا، آيرتون سينا، ثم بيليه. ولا حاجة للتذكير بأنه لا دخل لأسطورة سباق فورمولا 1 بالتصنيف، لكن أسطورة الأرجنتين الكروية لا ينقصه الدهاء ولا المجاملة كما يبدو بموازاة ثوريته العارمة، فهو يحوّل الإجابة لتكون عن الأفضل في الرياضة وليس كرة القدم فقط، ثم يغازل البرازيليين حتى لا يغضبوا بإقصاء أسطورتهم الكروية عن المركز الأول فيضع أسطورتهم في سباقات السيارات في المركز الثاني. مارادونا الثائر يبدو صادقاً في مشاعره بصفة عامة على كل حال، فبرغم انحيازه الظاهر لبلده الأرجنتين على حساب البرازيل في كرة القدم، فإنه لا يتردّد في الإشادة بلاعبين برازيليين – من أجيال تالية كان هو قدوتها – مثل رونالدو ورونالدينيو لدرجة تقبيل يد كل منهما بعفوية خالصة خلال لقاءين منفردين، وذلك على الأرجح استجابة لمشاعر متبادلة، فقد قال رونالدو (الظاهرة) إن مارادونا هو قدوته في كرة القدم قبل بيليه، وعلّل ذلك – ربما تجنباً لإثارة حفيظة أبناء بلاده البرازيليين – بأنه لم يشاهد بيليه على الملاعب، كما إنه يشير صراحة إلى تفوّق مارادونا على زيكو رغم تأثّره بصولات الأخير المشهودة مع نادي فلامنغو ومنتخب البرازيل.
لا إجابة قاطعة إذن على سؤال الأفضل في تاريخ اللعبة، سواء من قبل أرفع المختصين أو عامة المهووسين باللعبة الأكثر شعبية في العالم. ومن أجل الوقوف على المزيد من تعقيدات ومفارقات الحكم، نختم بواحدة من أطرف الاختيارات، وإن تكن على صعيد المهارة الفنية تحديداً وليست عن الأفضل بصفة عامة، لكننا نعرض لها هنا في خاتمة هذا المقال فقط لتأكيد انطباعية الأحكام وطرافتها أحياناً، تلك الأحكام التي لا تخلو في العادة من دوافع شخصية بداعي الصداقة، وأحياناً دهاءً لإبعاد الأنظار عمّن قد يكونون الأفضل بالفعل أو عن آخرين لا يحبهم النجم الذي يقوم بعملية التقييم.
سئل النجم البرازيلي الرفيع نيمار عن خمسة لاعبين يراهم أفضل منه فنيّاً فلم يكن بِدْعاً منه أن يضع ليونيل ميسي في المقدمة، لكن أسماء الأربعة الآخرين – رغم موهبتهم جميعاً وخصوصية موهبة بعضهم – أثارت اندهاش الجميع تقريباً بدرجة أو أخرى: تياغو ألكانتارا، إدين هازارد، كيفين دي بروين، وماركو فيراتي.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])