تاريخ اليهود
يوسف الشريف
يقول إدوارد سعيد في كتاب “الاستشراق” إن تقدم العرب مرهون بمدى دراستهم التاريخية لأنفسهم ولعدوهم الحقيقي. هذا ربما يجعلنا بحاجة دائمة للدراسات والكتب والأبحاث الجادة التي تتحدث عن تاريخنا وتاريخ أعدائنا، دراسة موضوعية بعيدة عن الأهواء، لتعرف كيف انقلب جارك إلى عدو لك، وكيف خرج اليهود الذين عاشوا في البلاد العربية كمواطنين مثل المسلمين والمسيحيين وغيرهم؟ وكيف تشكلت دولتهم وهل بالفعل تشكلت بعد وعد بلفور في 1917؟ أم ان للأمر جذور وخبايا لا نعرفها؟!
هذا باختصار موضوع كتاب “تاريخ اليهود في مصر والعالم العربي” الصادر حديثًا عن دار دوِّن للنشر والتوزيع، للكاتب الدكتور ياسر ثابت، والذي يبحث ويحلل ويتتبع حركة اليهود داخل البلاد العربية منذ ظهور الدين نفسه وحتى أصبح لهم وطن قومي خاص بهم.
يفرق الكاتب بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة سياسية استعمارية، أخذت تعمل على تفريق اليهود عن أوطانهم التي ولدوا وتربوا فيها، سواء في مصر أو المغرب أو الجزائر أو أي بلد عربي.
“نشطت الحركة الصهيونيَّة بين صفوف الطبقات الفقيرة من يهود مصر، وأخذت الدعاية الصهيونيَّة تعدهم بالرخاء الاقتصادي والديمقراطيَّة والتسامح وحريَّة الرأي في دولتهم الموعودة؛ ولأن طائفة اليهود في مصر تمتعت بتسامح ديني وحريَّة واسعة ودعم حكومي، فلم تكن الحكومة المصريَّة تتدخل في شؤون تلك الطائفة، وقد ساهم ذلك في تنامي ظاهرة النشاط الصهيوني في مصر”.
كان اليهود جزء من نسيج المجتمع المصري الذي عاش في عشرينات القرن الماضي، حيث كان المجتمع المصري يمكن أن يطلق عليه نموذج للدولة الكوزموبوليتان التي يعيش فيها الناس كمواطنين لهم حقوق متساوية ولهم واجبات تجاه وطنهم، لا فرق بينهم على أي أساس. نجد سيد درويش يقول في أغنيته الأعظم قوم يا مصري مصر دائمًا بتناديك.. ايه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود.
هذا ربما ما جعل الكثيرين لا يلتفتون للحركة الصهيونية داخل مصر التي أخذت تفرق هذا النسيج “قوبل النشاط الصهيوني في بداية الأمر بشيء من اللامبالاة من الحكومة، وعلماء المسلمين، وعامة الشعب المصري؛ ربما لعدم معرفتهم بالنيات الخطرة لذلك المشروع العالمي الذي يخطط لجمع اليهود من كل أنحاء العالم”. بل أن شيخ الأزهر آنذاك في عام 1918 تبرع بمبلغ 100 جنيه لصالح المنظمة الصهيونية في مصر.
ولكن “مع تنامي الوعي القومي وتطور أحداث القضيَّة الفلسطينيَّة، خاصة خلال الثورة الفلسطينيَّة الكبرى وتزايد حدَّة الاغتيالات السياسيَّة من قبل المنظمات الصهيونيَّة في فلسطين، بدأت تتضح مقاصد الحركة الصهيونيَّة، وأصبح في مصر رد فعل رسمي وشعبي تجاه النشاط الصهيوني، وبدأت المظاهرات المؤيدة للصهيونيَّة تقابل بمظاهرات مضادة لها”.
الخبايا والأسرار والكواليس داخل الكتاب لم تتوقف عند هذا الحد بل المعلومة المدهشة بالنسبة لي والتي توقفت أمامها كثيرًا هي محاولة توطين اليهود في سيناء عام 1902
“يذكر أنه في 22 أكتوبر 1902، التقى تيودورهرتزل بوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين، ودار حديث بينهما حول إمكانية توطين اليهود في إحدى المستعمرات البريطانية ومنها العريش وسيناء في مصر. وظهرت فكرة اختيار سيناء أثناء المؤتمر الصهيوني الأول والذي ُ عقد في بازل السويسريَّة عام ١٨٩٧، والذي بحث فكرة تأسيس وطن قومي لليهود، استنادًا إلى الكتاب الذي وضعه ومنحه اسم “دولة اليهود” وبعد اجتماع آخر مع وزير الخارجيَّة البريطاني ماركيز لانسدو بادر هرتزل بالسفر إلى مصر، أواخر مارس ١٩٠٣، واجتمع بالمندوب السامي البريطاني اللورد كرومر مرتين لاستطلاع حقيقة موقفه وموقف الحكومة المصريَّة من (مشروع العريش)”.
لكن في الوقت نفسه جاءت فتور ردود فعل اللورد كرومر، مغايرة لكل ما تمناه الصهاينة.
بعد ذلك ينقل الكتاب ليس فقط كواليس وحياة اليهود في مصر كمصريين يشتركون في النشاط الاقتصادي والتجاري والصناعي وغيره، ويجيب على السؤال هل حقًا كانت ثورة يوليو 52 هي التي قطعت صلة اليهود بمصر؟ أم أن هناك كواليس أخرى نحتاج إلى دراستها ومعرفتها؟!
يتتبع الكاتب بعد ذلك دور وحركة ونشاط عائلات اليهود داخل كل البلاد العربية من المحيط للخليج، فمثلًا نعرف أن يهود العراق هم أقدم جالية يهودية في العالم، إذ بدأ تاريخهم مع سبي يهود إسرائيل من قبل الآشوريين ثم البابليين فيما عرف بالسبي البابلي. وكيف استغلت القوى الصهوينية داخل العراق نوع من الفنون مثل السينما لتوصيل أفكارها، كما حدث في مصر وباقي الدول العربية. حتى جاء عام 1951 فخرج 96% من يهود العراق.
الكتاب يستحق أكثر من مقال، لأن به من المعلومات والأرقام والوثائق المعتمدة على بحث كبير قام به الكاتب معتمدًا على مئات المراجع والكتب والإحصائيات والأرقام والدراسات العلمية العربية والأجنبية والإسرائيلية أيضًا، فكل هذا يحتاج للوقوف أمامه لتأمله ودراسته، فمن خلال قراءة الكتاب لا يستطيع القارئ الوقوف أمام تاريخ الحركة اليهودية داخل الوطن العربي فقط، بل يستطيع الوقوف على أبرز الأحداث والتحولات السياسية التي حدثت في المنطقة والشرق منذ منتصف القرن ال19 وحتى بداية القرن ال21.. وهي فترة بكل تأكيد بحاجة ماسة إلى قراءتها لنعرف قبل أي شيء تاريخنا.