محمد سمير
مين هو صاحب المسألة والمشكلة والحكاية والقلم؟ سؤال طرحه عبد الرحيم منصور في أغنية “حدوتة مصرية”، ويطرحه ويتبناه من بعده يوسف الشريف من خلال روايته “الصنادقية” الصادرة حديثًا عن دار العين للنشر والتوزيع، وتدور أحداث الرواية في حارة الصنادقية، ويروي لنا الكاتب أحداث غريبة حدثت مُنذ اختفاء ذلك الشيخ مالك غريب الأطوار.. من خلال تلك الحارة تستطيع أن ترى الوطن، العالم والحياة بأكملها.
قصص لأُناس عاشوا في أسر طوال حياتهم، أسر المجتمع والعادات والتقاليد، وكذلك أسر الدين، ترى الجهل والأكاذيب جليةً، تطرح قصتنا العديد من القضايا والأسئلة الهامة، أسئلة حول الوجود، يعيش المرء عمره باحثًا عن إجابة لها.. لا يستطيع، فيظل في حالة بحث دائم عن الحقيقة، تلك التي يحاول يوسف تعريتها من خلال روايته.
هي حدوتة مصرية قدم من خلالها الكاتب الشاب الموهوب يوسف الشريف رؤية مُجتمع، وحكاية اُمة. وفي الخلفية ثمة أبعاد وجودية تعيدنا إلى بدايات الخليقة وحتى الآن، حكايات أُمة عاشت مرارة الهزيمة والانكسار، وكذا عاشت نشوة الانتصار.
كل القضايا التي يعاني منها المجتمع تم سردها داخل السردية الروائية المحكمة، الختان، الزواج المُبكر، حقوق المرأة ونظرة المُجتمع لها، الانحرافات الجنسية بأنواعها، فضلاً عن تجارة الدين.. مواضيعٌ طرحها الكاتب بجرأة وإقدام. ولغة سردية بسيطة وسلسة تجمع بين الفُصحى بتراكيبها اللغوية وبساطتها في الوقت نفسه، أسلوب سردي فريد من نوعه حيث تتحدث الشخصيات مع القارئ ومع نفسها في نفس الوقت، وتُشرك معها القارئ.. فيكون القارئ أحيانًا قاضي وأحياناً أخرى هو الضحية.
شخصيات متنوعة تم بنائها بعناية بحيث نعرف ماضي كل شخصية.. نعرف بماذا مرت؟ وكيف وصلت إلى ما هي عليه؟ وإلى أي شيء انتهت؟! ويبقى الأهم هو أن تسأل، حيث بدأت الرواية باقتباسٍ للأستاذ جمال الغيطانى: “ما دام الإنسانُ قادرًا على التساؤل فأمره بخير”. تقوم الرواية على تساؤل هام وهو “لماذا“ ذلك التساؤل الأصعب الذي تُحاصره الكثير من علامات الاستفهام طرحها الكاتب ببراعة.
لماذا لا نُفكر؟ ولماذا هُناك أفكارٌ جامدة غير قابلة للنقاش؟ ولماذا نخاف التغيير ونخشى التفكير؟ كيف يقع الإنسان أسيرًا لتلك المُعتقدات والأفكار التي قد تكتشف بعد فوات العُمر أنها سرابًا؟ تساؤلات هامة طرحتها الرواية في مُحاولة لتفكيك تلك المُعتقدات وإعادة صياغتها، مُحاولة للتفكير، وإعمال العقل الذي نص عليه القرآن الكريم، كما بدأت الرواية أيضًا بتلك الآية: “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ“ فالرواية هي مُحاولة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه وكما قال يوسف شاهين، الذي أهداه الكاتب هذه الرواية: “الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يمنعها توصل للناس“.
يُقدم يوسف الشريف بهذه الرواية صفعة لأولئك المُتاجرين بالدين، المسمومة أفكارهم.. الذين يُحرمون الأفكار لمجرد اختلافها، بل يُحرمون التفكير نفسه، ويُخلطون بين التفكير والتكفير، فيُصبح كُل من يُخالفهم كافر، أو مرتد، أو في طريق اللا رجعة، أولئك الذين يُحرفون كلام الله عن مواضعه ويستخدمونه لأغراضٍ شخصيةٍ، يُحرمون الشيء على الناس ويُبيحونه لأنفسهم، ويُعطون أنفسهم حق الوصاية على الناس. تُقدم روايتنا صورة للدين الوسطي الجميل، من خلال ذلك الشيخ الذي لم يرضَ عنه الجميع ووصفوه بالمُدعي لمجرد أنه لا يتوافق مع ذلك الكلام الذي حفظوه وتقاتلوا في الدفاع عنه على مر الزمان.
تطرح الرواية تساؤل حول رجل الدين.. من هو رجل الدين الحقيقي؟.. تساؤلات عديدة وخطيرة يدور المُجتمع في فلك الإجابة عنها ولا يستطيع. ونُلاحظ في هذه الرواية الاستعانة بكل أنواع الفنون السبعة ودمجها فنجد إنه دمج الفن الأول وهو العمارة، من خلال وصف لجميع البنايات والتراث المعماري الإسلامي والإنجليزي.. وكذلك الفن الثاني وهو النحت من خلال وصف تلك التماثيل البديعة التي استطعنا أن نرى فيها كل شيء وكأنه صورة بصرية. وكذلك الفن الثالث وهو الرسم من خلال الاستعانة بلوحاتٍ عالمية ووصفها في بعض المشاهد والأماكن، وكذلك الفن الرابع وهو الموسيقى، حيث استعان واستشهد بالعديد من الأُغنيات الخالدة، والفن الخامس وهو الشعر حيث استعان بالعديد من الأبيات الشعرية في وصف أحداثه وإيصال المعنى للمُتلقي. وكذلك الفن السادس وهو فنون الأداء فلاحظنا أن شخصياتنا تتمايل بانسيابية شديدة في أحداثها كأنها تتراقص فوق المسرح.. وأخيرا الفن السابع وخاتم الفنون وهو السينما، حيث نجد الصور المشهدية نراها كأنها تُعرض أمامنا على الشاشة الفضية، كما استعان بالعديد من المشاهد والجمل المُقتبسة من أفلام، كما تم عنونة بعض فصول الرواية بأسماء أفلام عظيمة وخالدة.
في حُب الفن، والجمال والإنسانية والرحمة والمحبة والتسامح.. في سردية قائمة على الصدق يُقدم لنا يوسف الشريف رواية “الصنادقية“ لنسبح معه في فضاء فسيح مليء بالتساؤلات التي تُجيب الرواية عن بعضها وتفتح أفاقاً للتفكير وإيجاد الإجابات على البعض الآخر.