يُقال إن أحدهم قد قام بإعادة كتابة التاريخ في مجال بعينه عندما يُحدث في مجاله تغيّرات جذرية تقتضي إعادة تقييم تاريخ المجال من حيث الأداء العام والإنجازات المجملة بناءً على ذلك الأداء وتلك الإنجازات. وعندما تكون التغيّرات الجذرية بالغة التأثير إلى درجة أنها تكاد تجبّ ما قبلها يصبح المصطلح المستخدم بدلاً من إعادة كتابة التاريخ هو إعادة الضبط (للعدّاد إلى الصفر) Reset/Resetting، أي أن تاريخ المجال بات يُحسب منذ بزوغ إنجاز الشخصية الفريدة التي سحبت – والحال كتلك – ما وقع قبل اقتحامها المجالَ إلى ما قبل التاريخ، تاريخ ذلك المجال الذي بات يؤسَّس بناءً عليها. وأن تُسحب الإنجازات المتحققة بالفعل على أي صعيد إلى ما قبل تاريخ بعينه لا يعني أنها سقطت من الحساب قدرَ ما يعني أنها بهتت حتى كادت تُنسَى مقارنة بما أصبح التاريخ يؤسَّس رجوعاً إليه من الإنجازات الفريدة لشخصية استثنائية أو التأثير الدامغ لحدث فوق العادة.
بالنظر إلى عنوان هذا المقال من الواضح أننا بصدد الحديث عن تأثير بيليه تحديداً، ولكن ليس من خلال إعادة طرح السؤال عمّا إذا كان هو الأفضل في تاريخ كرة القدم أم لا، وإنما بالنظر فيما إذا كان الرجل جديراً بالفعل بأن يُقسّم تاريخُ كرة القدم بناءً على إنجازاته وصيته إلى حقبتين: ما قبل بيليه وما بعده.
لا يفضي تقييم مهارات اللاعبين – أو حتى حساب إنجازاتهم كما رأينا في أكثر من مقام – إلى نتيجة حاسمة قدرَ ما يفجّر في الغالب مزيداً من الخلافات، ولكن بالحساب رجوعاً إلى ذيوع الصيت لا أعتقد أن خلافات بذات القدر يمكن أن تنشأ. وذيوع الصيت ليس مسألة إعلامية عابرة، فالمقصود هنا ما يتضمّنه الصيت الذائع من الدلالات العميقة على التأثير الملهم الذي يستحق صاحبُه أن يُقيّم استناداً إليه مهما يكن حجم الخلاف حول مكانة صاحب التأثير من حيث القيمة/الملكات الفنية أو “عدد” الإنجازات المتحققة على أرض الواقع.
جلستُ أتابع فيديو على موقع يوتيوب يتناول رأيُ صانعه أفضلَ اللاعبين على مر العصور GOAT في أكثر من لعبة، ولأننا تناولنا كرة القدم بما يكفي على هذا الصعيد تحديداً، فإن موضع الاستشهاد الذي أنا بصدده الآن متعلّق بكرة المضرب. من الطبيعي أن تكون اختيارات صانع الفيديو خلافية في كل لعبة، ولكن بالنسبة لي كان الاختيار الأكثر مدعاة إلى الاستغراب هو ذاك المتعلق بكرة المضرب. استبقتُ إعلانَ الفيديو عن الأفضل بقائمتي الخاصة متباهياً بمتابعاتي القديمة لكرة المضرب فجاءت النتيجة مختلفة تماماً بحسب وجهة نظر صانع الفيديو.
شملت قائمتي عمالقة سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي من أمثال بيورن بورغ وجيمي كونورز وجون ماكنرو وبوريس بيكر وبيت سامبراس، لأفاجأ بأن أيّاً منهم ليس ضمن قائمة صانع الفيديو التي شملت أبطال الألفية الجديدة رافاييل نادال ونوفاك جوكوفيتش وروجر فيدرير، ليحسمها لصالح الأخير.
ربما كنت المخطئ في التقدير لأنني توقفت عن متابعة أخبار اللعبة (دع عنك تفاصيل مبارياتها وبطولاتها) لحوالي ربع قرن. ولكن من السهل في المقابل القول بأن أسماء مرشّحيَّ سقطت من قائمة صانع الفيديو لأنه وضع في حسبانه نجوم اللعبة في الألفية الجديدة فقط وأغفل عمالقتها من أواخر القرن الماضي وما قبله، ولكن اختياره لـ”بيب روث” بوصفه الأفضل في لعبة البيسبول على مر العصور يشير إلى أن صانع الفيديو هذا ليس منحازاً بالضرورة إلى الجديد على حساب القديم، فـ”روث” بالفعل – كما يقول الفيديو – ينتمي إلى جيل من اللعبة ليس هناك الكثير على قيد الحياة ممن شاهدوه وهو يلعب.
يتضمن الفيديو المذكور هذا العديد من الدلالات، ولعل الدلالة الأظهر هي تأكيد صعوبة/استحالة الاتفاق على لقب الأعظم على مرّ العصور، وإن تكن دلالة اختلاف التأثير والتقييم بمرور الأجيال وتداخلها هي التي استحوذت على انتباهي، وذلك بعيداً عن ربع القرن الذي أسقطته أنا من حساب النابهين في لعبة كرة المضرب، وبمنأى كذلك من اعتبار النزعات الشخصية البحتة التي لا يسلم منها أيٌّ من المقيِّمين على هذا الصعيد.
بالعودة إلى كرة القدم، وتحديداً إلى المعيار الذي يمكن من خلاله أن يتم ضبط ساعة الصفر في حساب تاريخها، من الصعب أن نقع على كثير من اللاعبين الذين لا يزالون حاضرين بقوة في وجدان عشاق اللعبة من أبطالها قبل بيليه. بتحديد أكثر دقة، بل بصورة مباشر نطرح السؤال التالي: مَن قبل بيليه يذكره (بعض) عشاق اللعبة سوى الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو؟ أكاد أجيب: لا أحد، فدي ستيفانو نفسه يكاد يطويه النسيان رغم عظمة إنجازاته (مع ريال مدريد تحديداً).
أليس من المنطقي إذن اعتبار بيليه بدايةً، ليس لتاريخ كرة القدم مطلقاً وإنما على الأرجح لتاريخ المتابعة الجماهيرية الطاغية لكرة القدم والاستمتاع بإنجازات وأخبار نجومها الأساطير؟ أوشك أن أجيب على السؤال بلا تردّد: بلى، غير أنني أتمهّل عندما يقتحمني سؤال آخر: وما يدريك لعل الناس ينسون بعد بضعة أجيال بيليه نفسه ويشرعون في حساب تاريخ معشوقتهم رجوعاً إلى دييغو مارادونا أو ليونيل ميسي أو حتى كليان امبابي؟
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected]).