سوسن جميل حسن خيط البندول
“يتساءل عشاق القراءة ونقاد الأدب عن غرابة الهوى بين الأطباء والكتابة بينما الغريب ألّا يكون الأدباء كلهم كتّابَا، وهم شهود الحكايات الأثقل من صخرة موسى” ص 258، هذا ما قاله الدكتور مختار، أستاذ الدكتور أسامة عندما لجأ إليه طالبًا نصحَه في أمر آدم، وتابع “لو سُرقت سجلّات عياداتنا أو تفكّكت شيفراتها لتحطمت قلوب وتقوّضت أسر”.
لا ريب في أن هناك تواشجات عديدة وعميقة بين الطب والكتابة، الحقلين اللذين صنّفهما ابن خلدون في مقدمته تحت مسمى الصناعة الشريفة، خاصة العلاقة مع الأدب، لخّصته الدكتورة نجاة عبد الصمد، الروائية السورية الحائزة على جائزة كتارا 2018، عن روايتها “لا ماء يرويها”، في هذه الجمل القصيرة، فسؤال العلاقة بين الطب والرواية من أكثر الأسئلة التي نواجهها، نحن الأطباء والطبيبات، الذين جنحنا صوب الكتابة الإبداعية، فالطبيب يغوص إلى القيعان كلها بمقاربة مريضه وفحصه والسماع إلى شكايته، من قاع النفس البشرية بكل أطوارها وجوّانيتها، إلى قاع المجتمع والمنظومة الحيوية التي نعيش فيها، إلى المفاهيم كلّها.
من هذه النافذة المهمّة يمكن الإطلال على رواية “خيط البندول”، الصادرة حديثًا عن دار نوفل، فالبطولة فيها للطبّ، المهنة التي أعاد وباء كوفيد، في العام 2020، بعد أن أوقف البشرية ذاهلة أمام تغوّله وفجاءته، الأضواء إليها، وعلى دور الطبيب في حياة المجتمعات، كذلك كشف عن الجانب “القرباني” في شخص الطبيب، بعد أن حصد الوباء أعدادًا كبيرة من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي، وهم يواجهون هذا الوحش الذي كلّف كثيرًا إلى أن تمّ ترويضه.
تقوم الرواية على لبنة أساسية، أسامة طبيب الأمراض النسائية وزوجته نداء المهندسة المعمارية، في سعيهما اللاهث من أجل الحصول على طفل بتقنية أطفال الأنابيب، بعد أن انتهى بنداء حملها الأوّل إلى المشفى الوطني، حيث كان يعمل زوجها، واستئصال مبيضها بسبب انفجار حمل خارج الرحم.
لا يمكن تلخيص الرواية، 308 صفحات، في هذه المساحة الضيقة، وإبراز كل شخصياتها، المهمة بالطبع، لكثرتها، وتعدّد حكاياتها التي تتناسل من بعضها البعض، أو تتعالق بمهارة لافتة تبدعها الكاتبة، متتبعة تاريخ هذه الشخصيات ومصائرها، بينما تغطّي الرواية عقدين من الزمن، وزّعتهما الكاتبة على ثلاثة أقسام، 1993، ثم 2007، وأخيرًا 2010، وربما هي سنوات مهمة ومفصلية في تاريخ سورية المعاصر، السنوات التي انتهت بالإعصار السوري الحالي.
تطرح الروائية أسئلة عديدة، ربما أهمّها سؤال الإنجاب، ومعنى الأمومة بالنسبة للمرأة أوّلًا، وللرجل ثانيًا، ثم سؤال الطبّ والصراع بين الواجب والضمير المهني، وبين العقل والمنطق، وسؤال القيم والأعراف والقوانين مع تطوّر العلوم وانتقال البشرية إلى هذا العصر الممهور بقفزات نوعية عالية في هذا المضمار.
في لعبة طفولية، اجتمعت طفلات أربع، فريدة، سالي، نداء، إسراء، في أحد البساتين وقرّرن لعب لعبة البندول، بأن ربطن رأس مسمار إلى خيط، وجعلنه يتدلى فوق معصم الواحدة منهن، ويقمن بعدّ النوسات التي تحدث قبل أن يتوقف، وكل واحدة سوف تنجب أطفالًا بعدد هذه الحركات، والغريب أن مصيرهنّ سار في هذا الاتجاه.
تقول الدراسات إن 85% من حالات العقم معروفة الأسباب، وإن علاج الرجال واضح الدرب، أما علاج المرأة فرحلته شائكة وعسيرة، وقد تطول وتتفرع كجحور النمل تحت سطح الأرض.
إذن فالسرّ هنا، في هذه النسبة الباقية 15%، إنها لغز المرأة، صاحبة البطن الخلاقة كما يصفونها، فلماذا لم تحبل بطن نداء بعد عشرين محاولة تخصيب مخبري؟ ولماذا كان على شيرين أخت الدكتور أسامة أن تحتال ويتواطأ معها الدكتور شهاب، الذي يضمر نظرة أخرى عن الأخلاق والقيم، يمارس الطبّ بذرائعية مبرّرة لديه، وتلبس تحت ثيابها بطنًا من السيليكون، بعد زيارة إلى مشفى في طهران واستئجار رحم امرأة ليكبر جنينها من شامخ، زوجها، وينمو حتى الولادة، بآلاف الدولارات بين كلفة وتعويض للرّحم المستأجر؟
ولماذا أصيبت فريدة بسرطان المبيض، فحُرم رحمها من احتضان حياة، وسلبها حياتها؟ ولماذا تصاب بنفسج بسرطان الرحم وهي في الخامسة والستين؟ ولماذا تُحرم نور، الطفلة التي تعرّضت لاغتصاب شنيع أدّى إلى حمل، لم يتم اكتشافه إلّا في لحظة الولادة؟ وأي قوانين وتشريعات وأعراف اجتماعية يمكن أن تحمي فتاة مغرّرًا بها، وطفلًا جاء إلى الحياة مزوّدًا بأعتى أسلحتها؟ وهل الطفل هو من يولد من صلب الزوج، أم للطفل بالتبني المكانة نفسها لدى الأبوين؟ فعندما ولدت فريزة لفوزي طفلتهما التي من صلبه تغيّرت عاطفته تجاه فريد، ابنهما بالتبني، وهو ابن عطا أخ زريفة؟
وهل لمواليد المختبرات قبول اجتماعي ومباركة دينية، في هذا العصر، بعدما صار احتمالًا ذا حظوة في التحقق في عصرنا الحالي، كما حصل مع أول طفلة أنبوب “لويز براون” في العام 1978 في إنكلترا؟ وهل استئجار الأرحام مخالف للطبيعة والعرف والقوانين؟ فلماذا يدغدغ هذا الخاطر صدر وردة، الإنسانة البسيطة ذات التعليم المحدود، فتعرض أن تتبرع برحمها الفتي لنداء، تعبيرًا منها عن صدق مشاعرها وعرفانًا بما قدّم لها الدكتور أسامة؟
أسئلة كثيرة تدور في فضاء السرد، فهل الطفل غاية الوجود؟ وماذا عن كينونة المرأة؟ هل تبقى ناقصة بعدم إنجابه؟ أم إن “إنجاب الأولاد وتربيتهم يعوق الطامحين وعشّاق الحرية؟ وعلى البشر أن يختاروا إحدى مهمتين عظيمتين، كلتاهما إبداع، إما التفرغ لإنجاب الأطفال أو الإبداع؟”، وهل تكتمل المرأة بذاتها لذاتها، أم إنها تنقص أنوثة أو قيمة إذا لم تنجب فتعوّض عن نقصانها؟
الطبيب الإنسان: “نجوع في معدات الآخرين ونفرح لفرحهم”.
قَسَمُ أبوقراط مرتكزٌ أساسي لمعيارية أداء الطبيب لمهمته، في الرواية، وربما اختارت نجاة القَسَم بنسخته المرجعية، وليس بنسخته السورية التي ردّدناها يوم تخرّجنا من كليّة الطبّ، ويوم انتسابنا إلى نقابتنا، لأنها اعتمدت استراتيجية اللا تعيين بالنسبة للمكان، فدمشق لا تُذكر في السرد، يستعاض عنها بالعاصمة، وبلدة زعفران وقرية المغمورة وغيرها من الأماكن غير موجودة على الخارطة، لكن كل شيء يدلّ على سورية، من البيئة إلى العادات إلى الثقافة الشعبية إلى ملامح الشخصيات، لكن تبقى شخصية أسامة هي المركز، وقَسَم أبوقراط هو المرتكز.
إذ يواجه المواقف المتنوّعة التي تضعه أمام الامتحان الصعب، يوم أخفى مرض فريدة عن زوجته، ويوم تلقى نبأ سقوط أبيه وهو في أصعب المواقف، ويوم طُلب منه أن يقدم رأيه الطبّي كعضو في لجنة طبية، حول استئصال أرحام ثلاث فتيات متخلفات عقليًّا في الميتم، بسبب إيذاء أنفسهنّ وعبثهنّ بدماء الحيض من دون دراية بما يفعلن، وآخرها موقفه وصراعاته أمام ولادة نور، القاصر، ابتداء من إجرائها بسرّية تامّة في عيادته، وانتهاء بالإجراءات القانونية المطلوبة منه، والتي تعرّضه للمساءلة القانونية فيما لو أخلّ بها.
عدا هذه الامتحانات التي تواجه الطبيب في كل موقف، هناك الإنسان فيه، ما هو حقّ كيانه عليه؟ وحق شريكته عليه، وحق حياته عليه؟ ماذا عن الطبيب الذي يقيم في مهنته ليلًا ونهارًا وفي أيام العطلة والأعياد؟ ماذا عن الطبيب الذي لا يعرف مرضاه أنهم يتقاسمونه يومه وبيته، وقد يسكنون في مناماته؟
“هي الحياة، تتدبّر لنفسها من يفتدي حاجاتها باختياره أو غصبًا عنه، أو لأن ظرفه أوصله إليها”، هذا ما خلُص إليه أسامة الطبيب وهو يستدعي حياته بعد عشرين عامًا من الزواج والممارسة المهنية، ويسأل نفسه: “هل كسرتني التجربة؟ أعرف أن للنكبات وجهًا آخر”، لكنه يشكر الزمن لأنه أرضاه ولم يعجزه.
أمّا نداء، فستنهض من تجربتها، ملتفتة إلى ما بين يديها من نسغ الروح: الحبّ، الذي منذ لحظته الأولى منح حياتها معناها، لكنها، لو عاد بها الزمن وخيّرها، فسوف تسلك ذات الدرب، إنما بنكهة أخرى.. إنها الأمومة.
“خيط البندول” نص زاخر بالمعاني والمفاهيم والمعارف، والمعلومات التي برعت الروائية في تسريدها، والأسئلة، نصّ مشغول بشغف طبيبة، لم تمرّ في مهنتها على السطح، بل غاصت في عمق التجربة والأسئلة، حدّ أنها أنسنت الأعضاء النبيلة التي تحتضن الحياة، فالرحم يبكي، ويتألم، ويخون، والمبيض عضو نبيل يحتاج إلى الطبطبة عليه، وأطلّت على مجتمعنا من نوافذ باذخة الإضاءة، فنهضت شخصياتها كما لو أنها من لحم ودم، بكل ما لها وعليها، بكل هفواتها وسقطاتها وتحليقها إلى أقاصي المعاني، بأسلوب سلس ولغة رحبة، تمتلك من الشاعرية في بعض اللحظات ما يجعلها آسرة، ومن العقلانية والواقعية ما يجعل القارئ مأخوذًا بالسرد حدّ عيش الأحداث وكأنها واقع.