ثمة لاعب مؤثر يستطيع بصفة عامة أن يغيّر مجرى الأحداث لصالح فريقه بدرجة أو أخرى في المباريات التي يخوضها، وثمة لاعب نجم يسطع في سماوات عالم كرة القدم، وثمة لاعب يوصف بالأسطورة – تجاوزاً – لعظمة إنجازاته الكروية وفرادتها، ولكن ليس ثمة لاعب خارق بإمكانه أن يعوّض أداءً ضعيفاً لعشرة لاعبين متواضعي الموهبة والأداء في مباراة واحدة، دع عنك بطولة كاملة، أمّا أن يحدث ذلك على مدى مسيرة النجم حيثما لعب فتلك هي الخرافة بعينها.
في الفصل السادس بعنوان “رموز ونجوم” من كتابه القيّم “لماذا كرة القدم؟”، الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت سنة 2017، يقول الإعلامي الرياضي اللامع أيمن جادَه: “لعلي هنا أحاول تبسيط المسألة أو تسطيحها، فالحقيقة أن اللاعبين الموهوبين في كرة القدم هم أصحاب مهارات استثنائية بالفعل… ولكن الأمر عند محبيهم أكثر من ذلك وأشدّ تطرّفاً! وهذا يقود في حقيقة الأمر إلى البحث عن تصنيفات اللاعبين في بورصة المعجبين: فهناك لاعب النادي الذي يلعب مع أقرانه على مستوى النادي فحسب… وهناك لاعب المنتخب الذي يملك شيئاً يحتاج إليه منتخب بلاده… وهناك اللاعب النجم وهو الذي يملك مهارات استثنائية تجعل منه نجماً (STAR) في الملعب وخارجه في عيون محبيه سواء على مستوى النادي أو المنتخب. وهناك النجم الممتاز الذي يُحدث الفارق ويبهر الناس… أليس هو “سوبر ستار” (SUPER STAR)، من مثل هذه النوعية نجد لاعبين من كل المنظومات الكروية الكبرى، أشخاص مثل ألن شيرر… لويس سواريز… أنخيل دي ماريا… سيرخيو راموس… كريم بنزيمة… صامويل إتو… (الأمثلة المذكورة أكثر في الكتاب) بينما عديد اللاعبين الآخرين في كل الأندية وكثير من المنتخبات لم يبلغوا مصاف النجومية، وهي قد تكون في النهاية مجرد تصنيفات صحفية، لكن موسماً استثنائياً أو أداءً خارقاً في بطولة واحدة قد ينقل لاعباً ما من مستوى إلى آخر في عيون المدربين والنقاد والجماهير وبالطبع وكلاء اللاعبين الذين يتحكمون ببورصات الأسعار في سوق الانتقالات”.
يواصل جادَه: “ونأتي إلى الدرجة العليا، التي تنقل صاحبها في عيون محبيه وعقولهم إلى مرتبة الشرف والامتياز وهي لا تُمنح لأحد بسهولة، ولا يحدث ذلك إلا مرة كل بضع سنوات أو مرات قليلة في كل حقبة، إنها مرتبة النجم الأكبر بالفعل أو “الميغا ستار” (MEGA STAR)، إن مثل هؤلاء يُعدّون على أصابع اليدين على مرّ عمر اللعبة، أولئك الذين أحدثوا – في زمانهم – نقلة في التاريخ الكروي برمته وأبدعوا أشياء لم تكن موجودة أو معروفة قبلهم… فنحن نتحدث هنا عن ملوك اللعبة الحقيقيين من أمثال بيليه، مارادونا، ميسي، رونالدو البرازيلي، ورونالدو البرتغالي، ودي ستيفانو، كما أوزيبيو، وبيكنباور، كرويف، بوشكاش ورونالدينيو وزيدان، وقد يضيف البعض أسماء مثل ديفيد بيكام لوسامته والترويج الإعلامي الهائل الذي صاحبه لا لمهارته في لعب كرة القدم، أو بوبي شارلتون لأهدافه أو ميشيل بلاتيني لمهاراته التهديفية، ولكن مهما يكن من أمر فإن قاعة الشرف الكروية وعلى مر العصور لا تتسع لأكثر من تلك الأسماء إلا بقليل جداً، ممن فاتني ذكره أو تذكّره، أو ممن ستجود به السنوات القادمة، لأن أولئك هم أكبر نجوم الكرة على مدى نصف قرن من الزمان أو يزيد، إنهم رجال تحولوا إلى أساطير”.
جادَه معلّق رياضي حصيف وناقد دقيق، لذلك هو من الفطنة بحيث لا ينزلق إلى تسمية تصنيف من قبيل “اللاعب الأوحد” الذي يُحدث فارقاً بمفرده إلى جوار عشر لاعبين “كومبارس” لا يقومون بدور يُذكر أمامه، وفي مواجهة أحد عشر لاعباً من الفريق الخصم يُنظر إليهم كالأبطال لتزيد هزيمتُهم من روعة “خرافة” اللاعب الأوحد الذي يواجههم منفرداً أو شبه منفرد.
أشهر اللاعبين الذي حظوا بصيت اللاعب الأوحد هو أسطورة الأرجنتين مارادونا، لا سيما على صعيد المقارنة بينه وبين أسطورة البرازيل بيليه، وذلك قبل أن تنضاف إلى قائمة أساطير كرة القدم مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين أسماء أخرى – بحظوظ متفاوتة من السحر والتأثير الأسطوريين – على شاكلة رونالدو نازاريو ورونالدينيو وزين الدين زيدان ثم ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو لاحقاً.
ولكن يظل دييغو أرماندو مارادونا على الأرجح الأسطورة الأكثر حظاً في الاستئثار بلقب “اللاعب الأوحد” الخرافي، مارادونا واسع وعميق التأثير في كرة القدم، واندفاع الكثيرين الجارف في تقييمه – ليس من الجماهير فقط وإنما حتى المعلقين وإعلاميِّي الرياضة – يمكن إجمال أسبابه في شدة سطوع نجم مارادونا وطغيانه على لمعان بقية اللاعبين والنجوم الزملاء إلى جواره والخصوم في مواجهته على حدّ سواء. غير أن مراجعة دقيقة لأسماء وقدرات وإنجازات من لعبوا إلى جوار مارادونا – سواء على مستوى الأندية أو المنتخب الوطني لبلاده – تبيّن أنه لم يكن يلعب بمفرده بل بمساعدات واضحة ومؤثرة من لاعبين جريرةُ بعضهم أنه لم يعرف الطريق إلى الأضواء لأنه ظل يلعب في الدوري المحلي الأرجنتيني، وذنب بعضهم أن نجوميته – رغم تأثيرها – تضاءلت بوضوح إلى جوار نجومية مارادونا الاستثنائية.
هذا، وبرغم نجومية بيليه الطاغية بدورها، فإنها لم تحجب تماماً تأثير ونجومية نفر من رفاقه من أمثال غارينشيا وماريو زغالو وغيرهما في منتخب البرازيل، فضلاً عن النجوم التي كانت تتألق في سماء كرة القدم العالمية حينها من طراز فرانتس بيكنباور و بوبي تشارلتون وأوزيبيو على سبيل المثال. لذلك فإن حظ بيليه من اللقب الخرافي “اللاعب الأوحد” إن لم يكن منعدماً فهو قليل جداً، سواء لدى الجماهير أو الصفوة من المعلقين والإعلاميين المعنيين بكرة القدم، وذلك على قدر ما يمكن الإدلاء بالرأي مع الصعوبة التي تكتنف الحكم نظراً لتباعد الزمان الذي تألقت خلاله نجومية بيليه وهو يصول ويجول في الملاعب الخضراء المستطيلة.
مهما يكن، وبافتراض القبول الجدلي لأي قدر من صحة لقب “اللاعب الأوحد” في حق مارادونا أو سواه على أي صعيد، فإن نجومية/أسطورية اللاعب “غير الأوحد” أولَى عندي بتقدير أعمق في المقابل، أن تعلب إلى جوار لاعبين باهتين فتتألق أسهل من أن يسطع نجمك وأنت محاصر بمجموعة من النجوم تلعب إلى جوارك أو في مواجهتك، وقد رأينا على كل حال، ولا نزال نؤكد، أن الإنجازات العالمية لأي من اللاعبين مع زملاء متواضعي الموهبة مسألة مستحيلة أو شبه مستحيلة على أدنى تقدير، فلا لاعب يستطيع أن يحقق نجاحات دولية مدوية دون مساعدات فاعلة ومستمرة من زملاء ذوي مهارات عالية وقدرات متميزة إلى جواره في الفريق، بصرف البصر عن مدى بريق نجومية كلٍّ منهم.
هذه الخلاصة في الحكم ليست ضد مارادونا ولا في صالح بيليه بالضرورة، قدرَ ما هي تأكيد على أن “اللاعب الأوحد” خرافة تصنعها الجماهير وبعض النخب الكروية بتأثير عاطفتها الجارفة تجاه أي من اللاعبين الاستثنائيين على أي صعيد، “اللاعب الأوحد” خرافة أشبه بخرافة الدكتاتور الذي تُوقِع الجماهير وبعضُ النخب في روعه أن الحياة لن تمضي كما ينبغي دون قيادته، والفرق بين الحالين أن الجماهير تندب فعلتها مع الدكتاتور بعد أن يتمكّن ويطغى في حين تظل تمجّد “اللاعب الأوحد” الذي نصّبته وتناصب العداء كلّ من يشكّك في أحقيته باللقب الخرافي، والفرق أيضاً أن الجماهير مذنبة عندما تتواطأ فتنصّب دكتاتوراً من أي قبيل، في الغالب بنيّة حسنة ابتداءً، بينما هي على الأرجح بريئة إلى حدّ السذاجة التي لا تخلو من متعة مستفادة عندما تقوم بتنصيب “اللاعب الأوحد”.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])