“هكذا تَعْلَق أدمغتنا بين المطرقة والسندان. من ناحية، نود أن يعمل دماغنا على أتْمَتَة جميع جوانب العالم المستقرة بحيث لا نضطر إلى التفكير فيها. فأنا لا أريد قضاء وقتي كله في التفكير بالبقاء في الخط الأيمن عندما أقود سيارتي في بلدي في الولايات المتحدة، لأن هذا الجانب من جوانب عالمي المحلي مستقر جداً. ومن ناحية أخرى، عندما تتغير أمور معينة في العالم، نريد أن يتذكر دماغنا تلك الأشياء. إذا أغلِق طريق معيّن بسبب أعمال الصيانة، أريد أن أتذكر ذلك كي أتمكن من تجنبه في طريقي إلى العمل. إن العقبة الأكثر تحدياً هي أن الدماغ لا يقال له أي الأشياء مستقرّ وأيها متغير، بل يتعيّن عليه أن يتعلم ذلك أيضاً، وعلى وجه الخصوص أن يتأكد من أننا لا نتغير بسرعة كبيرة. على سبيل المثال، إذا كنت سأقود سيارة في إنجلترا في إجازة ليوم واحد، فلن أرغب في العودة إلى بلدي وقد أعيد تشكيل دماغي للقيادة على الجانب الأيسر من الطريق. لوصف هذه المعضلة، صاغ عالم الأعصاب الحسابي ستيفن غروسبرغ مصطلح “معضلة الاستقرار واللدونة”: كيف يعرف الدماغ آلية التغيير في الوقت المناسب دون أن ينسى كل ما يعرفه”.
ذلك جزء من إجابة راسل أ. بولدراك Russell A. Poldrack، عالم النفس وعالم الأعصاب الأمريكي على السؤال “لِمَ نمتلك عادات؟”، ضمن كتابه Hard to Break: Why Our Brains Make Habits Stick، الصادر في ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ببيروت سنة 2022 بعنوان “صعوبة التخلص من العادات: ولِمَ يتمسّك بها دماغنا؟”.
ولكن، إلى أي مدى يمكن أن تصبح المهنة عادة أو روتيناً؟ بتحديد أدق في إطارنا هذا، إلى أي مدى يمكن أن يكون اللاعب موهوباً في رياضة ويجد نفسه مرتبطاً بممارسة رياضة أخرى قاده الحظ إليها ولا يستطيع الفكاك من أسرها بغض النظر عمّا يحرزه فيها من نجاح؟ السؤال الأخير هذا مرتبط بإشكالية، ربما تكون أعمق، هي إشكالية اكتشاف الموهبة الأجدر بالاستحواذ على حياة الواحد في أي مجال، وهي إشكالية تؤثر فيها عوامل شديدة التداخل وبالغة التعقيد عرضناها في أكثر من مقام وكتاب مثل “لوغاريتمات الشهرة” و”تواضعوا معشر الكتاب” و”تبّاً للرواية” وغيرها. أما السؤال الأول فإجابته أن أية وظيفة – باستعادة أجواء كتاب بولدراك بعيداً عن دقة المراد بالمصطلحات في إطار البحث الأكاديمي – لا تصبح فقط مجرد عادة أو روتين وإنما على الأرجح الروتين الأساس الذي تدور عليه حياة أي من الناس. هذا عن الوظيفة، أية وظيفة يحصل عليها المرء في إطار مهنته، أما المهنة ذاتها فإن ارتباط الفرد بها ربما يتجاوز الروتين إلى حيث تشكل أحد أهم أعمدة حياته، وربما للدقة عموداً أساساً من بين عمودين اثنين تقوم عليهما حياة الناس عادة: العمود العملي والعمود الاجتماعي.
بمزيد من التركيز على كرة القدم، فإن انتقال اللاعب من نادٍ إلى آخر أمر ليس معقداً، فهو في الغالب يعتمد على بضعة عوامل لعل أبرزها هو طبيعة اللاعب نفسه من حيث ميله إلى إحدى النزعتين أكثر من الأخرى: الاستقرار أو التنقّل، وهي مسألة ليست حصراً على لاعبي كرة القدم فحسب وإنما تشمل كل صاحب مهنة، وذلك بمراعاة العوامل الأخرى التي تؤثر على كل مهنة بطريقة مختلفة بحسب طبيعة المهنة وأهمية العامل المؤثر فيها من ثم. مع كرة القدم، نجد أن قصر عمر مهنة اللاعب – نسبة إلى غيرها من المهن التي ينتهي أمدها ببلوغ سن التقاعد في العقد السابع من العمر – هو أحد أبرز المؤثرات في قرارات انتقال اللاعبين، وذلك إلى جوار عوامل أخرى مثل ولاء أحد اللاعبين لنادٍ بعينه في مسقط رأسه بداعي التقدير الاستثنائي الذي يحظى به في ذلك النادي، أو – في المقابل – النجومية الطاغية للاعب آخر والفرص المغرية الهائلة المتاحة أمامه من كل قبيل.
على وجه العموم، قلّما يترك لاعب متميز مجاله الرياضي في أوج تألقه وينصرف إلى غيره حتى إذا أدرك عند مرحلة ما ولعه بالمجال الآخر، فالمسألة ليست متعلقة في كل الأوقات باكتشاف الذات، فتحدي تطوير المهارات والقدرات يتطلب مجهوداً عظيماً ووقتاً طويلاً قبل أن يصل اللاعب إلى عطائه الأمثل، ما يعني أن لاعباً متألقاً في كرة القدم يقرر الانتقال في منتصف عمره الرياضي إلى ممارسة رياضة أخرى يتعيّن عليه غالباً أن يبدأ مسيرته المهنية على ساحات الرياضة الجديدة ممّا يشبه الصفر.
رغم ذلك، فإن أكثر من رياضي مشهور جرّب الانخراط في رياضة أخرى، ليس بالضرورة لبلوغه سن التقاعد الرياضي بعد اعتزاله الرياضة التي اشتهر من خلالها ولكن ربما من أجل الخروج مخلّفاً أزهى صوره في رياضته الأولى والحلم بتألق من قبيل آخر في رياضته الجديدة.
في الغالب تبوء محاولة الانتقال من رياضة إلى أخرى بقدر من الفشل، خاصة عندما يكون المنتقل نجماً بارزاً في سماء رياضته الأولى، أما إذا كان أبرز نجوم تلك الرياضة فإن الفشل في إحراز قدر مماثل من النجومية في المجال الجديد يكاد يكون في حكم المؤكد. رغم ذلك جرّب مايكل جوردن نجم نجوم الدوري الأمريكي لكرة السلة (الرابطة الوطنية لكرة السلة NBA) في قمة تألقه الانتقال إلى لعب كرة القاعدة/البيسبول لموسم واحد يرى البعض أنه قدّم خلاله أداءً مُرضياً عاد بعده إلى الرابطة الوطنية لكرة السلة من جديد.
في الواقع تلك واحدة ربما من أجرأ وأنجح (إلى حدّ ما) محاولات الانتقال من رياضة إلى أخرى، فجوردن فعلها وهو في قمة تألقه لمجرد أنه – بحسب تعبيره كما هو شائع – فقد الرغبة في اللعب، وهي حالة نموذجية للانتقال إلى رياضة أخرى إبّان قمة العطاء الرياضي للاعب في رياضته الأساس، ثم إنه لم يفشل في لعبة البيسبول، لكنه في المقابل لم يرقَ في أدائه إلى ما كان عليه مع كرة السلة، وهو أمر متوقع من الجميع تقريباً ربما باستثناء اللاعب ذاته الذي كان يمنّي نفسه بمجد موازٍ في لعبة أخرى. وربما كان جوردن محقاً في كونه قد اتخذ قرار الانتقال إلى البيسبول لمجرد أنه فقد الرغبة في لعب كرة السلة. هذا، وربما كان من شأن نجم جوردن أن يلمع في سماء كرة القاعدة بذات القدر الذي لمع به في سماء كرة السلة لو أنه بدأ مشواره الرياضي مع البيسبول وليس كرة السلة، ومن المحتمل كذلك ألا يحقق النجومية نفسها حتى إذا اتخذ كرة القاعدة مساراً مهنيّاً له منذ البداية. النجاح مسألة سهلة جداً للموهوبين إذا قيست بالتألق إلى حد النجومية التي تتشابك عوامل عديدة لتحقيقها، خاصة عندما تكون نجومية إلى درجة “الأعظم في كل العصور”.
إزاء حالة مايكل جوردن “النموذجية” في الانتقال بين رياضتين، من حيث اتخاذ القرار في قمة التألق الرياضي والعودة بقوة إلى المجال الأول، ثمة حالة انتقال أخرى يمكن وصفها بالـ “نموذجية” ولكن على صعيد فشل نجم من طراز “الأعظم في كل العصور” في لعبة رياضية في تحقيق أي نجاح على نطاق لعبة رياضية أخرى. المفارقة أن مبعث الفشل كان – بحسب اللاعب نفسه – هو العنصر الذي يشكّل أساس رياضته الأولى ولكن بالنظر إلى متطلبات تطبيقه على الرياضة الثانية.
انتقل أسطورة سباقَي مائة متر ومائتي متر الجامايكي يوسين بولت بعد اعتزاله العدْو إلى محاولة ممارسة كرة القدم الاحترافية مصرحاً في حديث تلفزيوني بأنه يملك ما يلزم من المهارات الأساسية للعبة ومنوّهاً بصورة خاصة إلى سرعته. ولكن بعد فترة وجيزة من التدريب مع فريق سنترال كوست مارينيرز الأسترالي لكرة القدم أدرك أسطورة السرعة الأعظم في كل العصور أن ما ينقصه في كرة القدم الاحترافية تحديداً هو السرعة حين قال – نقلاً عن موقع “بي بي سي عربي” – بعد أن شارك في تدريبات الفريق في مركز الجناح الأيسر إنه: “ما زال بحاجة إلى أن “يرتقي إلى السرعة” التي تتناسب مع طبيعة مباريات كرة القدم. وأضاف: أنا لست معتاداً على رفع السرعة، والعودة للخلف ثم التقدم للأمام والعودة للخلف مرة أخرى، وتقليل السرعة ثم زيادتها، والتحرك ذهاباً وإياباً، وهذا هو التحدي الأكبر”.
التحدي الأكبر الذي واجهه أعظم عدّائي سابقات السرعة في كل العصور مع كرة القدم إذن هو السرعة، فالمسألة ليست أن تركل الكرة أمامك إلى أبعد مسافة مراهناً على اللحاق بها لأنك متأكد من أنك ستركض أسرع من الجميع، فركل الكرة أبعد من اللازم قليلاً قد يجعلها تقع مباشرة بين قدمي أحد لاعبي الفريق الخصم، لكن الأدهى أن ذلك ليس كل ما في الأمر، فالسرعة في كرة القدم لا تقتصر على مجرد الانطلاقة القوية أو التسارع المدهش، بل تعني أيضاً عكس ذلك، أي القدرة على التباطؤ المفاجئ والارتداد السريع إلى الخلف، وهو ما فطن إليه بولت نفسه. الأكثر مدعاة للتأمل أن السرعة في كرة القدم قد تعني تغيير الاتجاه بالالتفاف الذي يفاجئ اللاعب المواجه من الفريق الخصم دون التحرك خطوة إلى الأمام أو الخلف. لذلك بدا بولت بالفعل خلال التدريبات كما لو كان مقاتلة فائقة السرعة تبحث في المستطيل الأخضر عن سانحة لإظهار مهارتها الفريدة في العدو الخارق، بدا يوسين بولت ضخماً قوي البنية في معلب كرة القدم، لكنه لم يمنحني أبداً الإحساس بالرشاقة المطلوبة للاعب كرة القدم حتى قبل أن تلمس قدمُه الكرة.
لنختم مع حالة انتقال ثالثة لكنها “رمزية” هذه المرة وليست “نموذجية” بالمعنَيَيْن اللذين عرضناهما في حالتَي مايكل جوردن ويوسين بولت. هذه المرة الانتقال من اللعبة الرياضية إلى اللعبة الرياضية نفسها، بل من كرة القدم تحديداً إلى كرة القدم نفسها، ومع واحد هو في تقديري أمهر لاعبيها على مرّ العصور.
لم ينتقل رونالدينيو خلال مسيرته الكروية إلى احتراف كرة (قدم) الصالات أو كرة القدم الشاطئية، لكنه شارك في مباريات استعراضية على صعيد المجاملة في اللعبتين بعد اعتزاله. يقول رونالدينيو – نقلاً عن صفحة على الإنترنت/فيسبوك – إن لَعِبَه كرة (قدم) الصالات في بداياته قد جعل تحكّمه في الكرة جميلاً وصقل مهاراته/حركاته الفنية وذلك لطبيعة كرة الصالات Futsal التي تقام على أرضية صلبة يواجه فيها خمسة لاعبين خصومهم من نفس العدد في مساحة ضيقة جداً قياساً إلى المستطيل الأخضر المعروف. أمّا كرة القدم الشاطئية، فقد شاهدناه يلعبها خلال مشاركته في مباراة اعتزال نجمها البرازيلي جورجينيو بين البرازيل واليابان، وكرة القدم الشاطئية يشارك فيها نفس عدد لاعبي كرة (قدم) الصالات لكنها بطبيعة التسمية تُلعب على أرضية رملية مناقضة تماماً لأرضية كرة الصالات.
ورغم أن رونالدينيو لعب كرة (قدم) الصالات في بداياته كما رأينا، فإننا نتناول هنا ما شاهدناه من مشاركاته الأخيرة مثل افتتاح الدوري الهندي الممتاز لكرة الصالات منتصف سنة 2016 بعد توقفه عن المشاركات الرسمية في مباريات كرة القدم سنة 2015، ومباراة كرة القدم الشاطئية الاستعراضية المشار إليها بمناسبة اعتزال جورجينيو بداية سنة 2019 بعد إعلان اعتزاله رسمياً سنة 2018.
مهارات رونالدينيو في المباراتين كانت كالعادة لافتة، لكنه لم يكن بالضرورة صاحب المهارات الأفضل بين جميع المشاركين، وإذا سارع البعض ليبرر ذلك بأن المباراتين استعراضيتان وقد أقيمتا في مرحلة متأخرة من عمر اللاعب الرياضي، بل بعد انتهاء ذلك العمر، فإن هذا التبرير معقول لكنه يقود على الأرجح إلى السؤال: هل كان رونالدينيو سيغدو الأمهر لو أنه انصرف إلى كرة قدم الصالات أو كرة القدم الشاطئية منذ البداية؟
اعتماد اللعبتين بدرجة كبيرة على المهارات/الحركات الفنية يرجّح أن رونالدينيو كان من المحتمل أن يكون الأمهر كذلك في تاريخ أي من اللعبتين لو أنه انصرف إلى أي منهما انصرافاً كاملاً منذ بداياته. لكن الجدير بانتباه أشدّ على هذا الصعيد أن كثيراً من أساطير كرة القدم – خاصة أولئك الذين لا يعتمدون في أدائهم بصورة أساسية على المهارات/الحركات الفنية – لم يكونوا على الأرجح ليحرزوا نجومية مماثلة لو أنهم لم يختاروا كرة القدم وانصرفوا إلى كرة الصالات أو كرة القدم الشاطئية منذ بداياتهم. ففضلاً عن الاختلاف الواضح في التفاصيل بين كرة القدم واللعبتين الأخريين المشتقتين منها، ثمة فارق هام بين كل من اللعبتين المشتقتين ممثلاً في الاختلاف إلى حدّ التناقض في أرضية الملعب لكل لعبة، وهذا وحده يشكّل فارقاً كفيلاً بأن يجعل متطلّبات “الأعظم في كل العصور” مختلفة لكل لعبة منهما، وعلى الأرجح مختلفة بدورها عمّا هو مطلوب من مهارات وقدرات الأعظم في كل عصور كرة القدم، مع تذكّر أن اللقب الأخير لا يزال على كل حال محلّاً لجدال واضح، ليس استناداً إلى تباين مرجعيات التقييم الفني فحسب وإنما لاختلاف أمزجة وميول المقيّمين المتنازعين من كل قبيل.