إذا استطعت أن تنجو بفعلتك من المساءلة القانونية فأنت بريء في نظر القانون مهما تكن حقيقة موقفك من حيث التورط في الفعل الذي يجرّمه القانون. هكذا يلخّص كثير من المحامين الذرائعيّين “لعبة القانون”. الواقع أن تلك هي “حقيقة” القانون التي يجهر بها المحامون الصريحون لا الذرائعيّون بالضرورة، فمهمّة المحامي يمكن إجمالها في حرصه على ضمان البراءة لموكّله أو على الأقل أخف الأحكام الممكنة ضده في حال ثبوت تورّطه في المسألة موضوع المحاكمة. القاضي يعلم ذلك ويأخذ كل المسوّغات التي يسوقها المحامي في الاعتبار من الوجهة القانونية البحتة ليصدر حكمه وحيثيّاته بناءً على تلك المسوّغات (إلى جانب مؤثرات وأبعاد القضية الأخرى) بصرف النظر عن مدى قناعة ذلك القاضي المبدئية عموماً ببراءة أو تورّط المتهم.
الأمر لا يختلف كثيراً في كرة القدم، فإذا استطاع اللاعب أن ينجو بمخالفته من عين حكم المباراة وأعين مساعديه – بما فيهم حكم الفيديو المساعد VAR – فهو وفريقه الرابحون مهما يكن مدى الاستياء الذي يحيق بلاعبي الفريق الخصم وأنصاره. هذا، وربما يُعدّ هدف مارادونا الخالد في مرمى إنجلترا في ربع نهائي مونديال 1986 أشهر الاحتيالات في تاريخ بطولة كأس العالم، وشهرة الهدف – الذي يُنسب إلى مارادونا وصفُه بكونه سُجّل بمزيج من رأسه ويد الرب – ليست مكتسبة فقط من كونه شكّل خطوة فارقة أدّت آخر المطاف إلى فوز الأرجنتين بكأس العالم تلك السنة، وإنما لكون الذي “ارتكب” الهدف هو أحد أشهر أساطير كرة القدم، بل أحد أبرز المرشحين في كل القوائم لانتزاع لقب الأفضل في كل العصور.
أمّا بخصوص لمسة/ضربة يد لويس سواريز الشهيرة بدورها، فهي تدخل في تقديري من باب التضحيات/الفدائيات العظيمة أكثر من باب الاحتيالات الماكرة، فقد فعلها اللاعب الأورغوياني عياناً جهاراً. ومثلما أثمرت حيلة مارادونا بيده اليسرى – لا يد الرب – عن تأهل الأرجنتين إلى نصف نهائي المونديال ثم الفوز بالكأس الثمينة، فإن لمسة يد سواريز الكرة على خط مرمى بلاده في مباراة الأورغواي أمام غانا في الدور ربع النهائي لمونديال 2010 أثمرت بدورها عن تأهل الأورغواي وحرمان إفريقيا – وليس غانا وحدها – من إنجاز تاريخي بالتأهل لأول مرة إلى الدور نصف النهائي من بطولة كأس العالم لكرة القدم.
في كتابه “فيمَ نفكّر حين نفكّر في كرة القدم؟” الصادر عن دار مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة سنة 2017، ترجمةً للأصل الإنجليزي What We Think About When We Think About Football، وضمن الفصل الثالث من الكتاب تحت عنوان “تقويض ذاتية كرة القدم”، يقول أستاذ الفلسفة البريطاني سايمون كريتشلي Simon Critchley: “يجب احترام قوانين اللعبة، حتى القانون رقم 11، ذلك القانون المحكم الدقيق المتعلق بأسرار التسلل. وهذا هو سبب بغضنا للاحتيال أو الادّعاء أو التظاهر في اللعب، وأنا في هذا أصدُقُ مع ثقافتي الإنجليزية بعض الشيء. يبدو أننا نضيق ذرعاً بمشهد اللاعب الذي يدّعي السقوط على الأرض، ويغطّي وجهه بيديه، إذا لمس كتفه كوعٌ في الهواء، مثال ذلك التصرف المؤسف الذي أقدم عليه اللاعب البرتغالي في صفوف ريال مدريد بيبي Pepe في نهائي دوري الأبطال في مايو/أيار عام 2016، أو السقوط المسرحي على الأرض للاعب البرازيلي ريفالدو Rivaldo بعد أن تعثّرت الكرة بين قدميه في مباراة البرازيل ضد تركيا في كأس العالم 2002. إذا كان ذلك كذلك، فإن الاحتيال ليس مجرد خطأ نرتكبه، أو منكراً ننكره، لكنه فن، فن يمارسه منتخبا إيطاليا والأوروغواي باقتدار”.
لن يغضب الإيطاليون أو الأورغويانيّون على الأرجح من كلمات الفيلسوف الإنجليزي عاشق الكرة، فالمسألة متعلقة إلى حد ما بالثقافة المقبولة في إطار أيٍّ من المجتمعات كما يشير سايمون كريتشلي نفسه وهو يؤكّد انحيازه إلى ثقافته الإنجليزية على هذا الصعيد، مع ضرورة الحذر من تجاهل التعقيدات التي تكتنف محاولات التصنيف والتقييم في هذا السياق “الأخلاقي” المحفوف بالمزالق والشراك.
مهما يكن من الأمر، تبدو ثقافة الاحتيال – على نحو ما عرضنا فيما مضى – ليست شائعة في ملاعب أمريكا الجنوبية فحسب وإنما مقبولة وربما مقدّرة بدرجة واضحة هناك. فمارادونا يقول في أحد لقاءاته التلفزيونية – على قناة سكاي نيوز العربية إبّان تدريبه نادي الفجيرة الإماراتي – تعليقاً على سؤال متكرر حول هدفه التاريخي في مرمى إنجلترا ما مفاده أنه فعل ذلك بتلقائية كما يفعلونها في شوارع الأرجنتين وهم يلعبون الكرة، ثم ركض بعدها يهلّل بذات التلقائية عندما تم احتساب الهدف لأن الحكم (التونسي علي بن ناصر) لم يكن في زاوية تسمح له برؤية ما حدث.
لكن حدود الاحتيالات الكروية في الميدان من قبل اللاعبين لا يمكن رسمها بصرامة نسبة إلى أي محيط جغرافي، فالفواصل على وجه العموم غير محددة بدقة بين الخطأ والصواب على أي نطاق، ما يسمح للجميع بالتحايل بدرجة أو أخرى استناداً إلى أي من المبررات، وأحياناً دون الحاجة إلى تبرير سوى الرغبة المجردة في الفوز. الأمر ليس مقصوراً إذن على الأرجنتين كما في لمسة يد أسطورتها دييغو مارادونا، ولا الأورغواي كما في حركة نجمها لويس سواريز، ولا إيطاليا كما في سلوك مدافعها جورجيو كلِّيني، فأمثلة سايمون كريتشلي في الموضع ذاته من الكتاب تمتد لتصل إلى فرنسا مع: “لمسة اليد المتعمدة من تييري هنري، والتي أطلق عليها “يد الضفدع”، وهيأ بها الكرة لزميله فسجّل هدف فرنسا في مرمى إنجلترا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم عام 2010”.
يكمل كريتشلي: “الحق أن هناك متعة حقيقية في مشاهدة كيف يحتال اللاعبون على قواعد اللعبة ويكسرون قوانينها؛ الاحتيال فن تكتيكي دقيق يتطلب وجود القانون وحضور فعل التعدي عليه. وربما كان هذا هو السبب في رغبة الكثيرين منّا في مشاهدة إعادة الأخطاء المرتكبة بالحركة البطيئة. ثَم جمال في مثل هذا العنف المنضبط. اللعب لعب ونحن نعي أنه لعب، لكن ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. حتى الاحتيال لا هزل فيه”.
شَعَرَ عُشّاقُ “اللعب النظيف” – عدا مناصري فريق الأورغواي بطبيعة الحال – بالانزعاج والاستياء من لمسة يد سواريز الشهيرة في مباراة غانا والأورغواي إلى درجة أن البعض فكّر في تغيير قوانين كرة القدم ليتمّ احتساب الهدف في مثل هذه الحالات. لكن من الواضح أن فكرة احتساب هدف يُبعده مدافع – ولو باليد – قبل أن تتجاوز الكرة خط المرمى لم تلق رواجاً، إذ لم يبدُ من المنطقي احتساب هدف لم يتحقّق بدعوى أنه كان في حكم المتحقق لولا وقوع فعل غير شرعي، فالجزاء الذي ينص عليه قانون الكرة يبدو عادلاً بما يكفي: يُطرد اللاعب الذي لمس الكرة بيده وتُحتسب ضربة جزاء للفريق الذي ضاعت منه الفرصة المؤكدة. لذلك بدا تعليق سواريز – نقلاً عن موقع سي إن إن بالعربية – منطقياً إلى حد بعيد: “أضاع لاعب غانا ركلة الجزاء، وليس أنا، لقد طُردتُ، سأعتذر إذ أصبت لاعباً، أسامواه جيان كان سيفعل الشيء نفسه”، وذلك بتجاوز الشق الأخير من التصريح، فما أدرى سواريز أن جيان كان سيفعل الشيء نفسه بالضرورة في موقف مماثل؟