إسلام وهبان
تصدرت خلال الأيام القليلة الماضية عبر منصات التواصل الاجتماعي وتحديدا تطبيق “تيك توك”، إحدى أغاني الفولكلور الشعبي تحت هاشتاج “خضرة”، واصبح “تريند” بعد أن شارك مستخدمو التطبيق المقطع الصوتي مرفقا بصورهم أو فيديوهات لأماكن مختلفة في مصر.
المقطع يعود لأغنية “ميتى أشوفك” للمطربة خضرة محمد خضر، إحدى أشهر فنانات الغناء الشعبي في مصر، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهي من كلمات رائد الفن الشعبي الكاتب والشاعر زكريا الحجاوي، والتي احتفت من خلالها بمحافظات ومدن مصر مثل أسيوط واسنا وديروت وغيرها، وقد أعاد الموزع أماديو إحياء الأغنية مرة أخرى بتوزيع جديد، وهو ما ساعد في انتشارها عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وُلِدت خضرة محمد خضر، بكوم حمادة التابعة لمحافظة البحيرة، 1918 لأسرة فنية، فقد كان أبويها وجدتها يعملون مداحين في الموالد، ورغم زواجها من رجل بعيد عن مجال الغناء، إلا أن حبها للغناء دفعها إلى السفر إلى القاهرة وبدأت الغناء في سرادقات الحسين، ثم بدأت في قيادة فرقة صغيرة للغناء بالموالد في محافظات بحري والقاهرة، وحاول زوجها أن يعيدها للمنزل، ويثنيها عن العمل في الموالد، ولكن محاولته باءت بالفشل، وتطلقت خضرة من زوجها الأول.
أعادت خضرة إحياء الموروث الشعبي من خلال تقديم عشرات الأغاني التي نقلت الحياة المصرية وروح الريف المصري، فضلا عن الملاحم الشعبية والسير التي غنتها في الإذاعة المصرية مثل “أيوب المصري”، وكان لها فضل كبير على الحفاظ على ذلك التراث ونقله عبر الأجيال، من خلال بساطتها وعفويتها وملامحها وصوتها المصري الأصيل.
في مطلع الستينيات جمعت الصدفة بين الكاتب والشاعر زكريا الحجاوي والمطربة خضرة محمد خضر، حينما كان بصدد كتابة مسرحية إذاعية تعد أحد أبرز الملاحم الشعبية بعنوان “أيوب المصري”، وكان يبحث مع المخرج الأداعي الكبير يوسف الحطاب في سرادقات الحسين عن مطربة شعبية لتقديم المسرحية، وليعجب بصوتها لكنها ترفض المشاركة في المسرحية بعد أن انتابتها رهبة من الميكرفون.
بعد أيام شعر فريق العمل أن المسرحية لن تكتمل إلا بصوت خضرة فأقنعوها أن تقف على مسافة من الميكروفون خلف الفنانة فاطمة علي وتقوم بالغناء على طبيعتها، وكانت هذه شرارة انبهار زكريا الحجاوي بهذه الشخصية وهذا اللون، واختفى عن الأنظار وغاب أيضا عن بيته مما جعل زوجته تقوم بالبحث عنه والاتصال بصديقيه محمد علي ماهر ويوسف الحطاب، فقاموا بالبحث عنه وعرفوا أنه وقع فى غرام خضرة محمد خضر وتزوجها.
من هنا بدأت رحلة زكريا الحجاوي مع خضرة محمد خضر التي أطلعته على كل مخزون الفولكلور الشعبي، وسافر معها بصحبة فرقتها البلاد لينقل عنهم ويكتب للإذاعة التي أثرى مكتبتها بالعديد من السير والملاحم التي تعاون فيها مع المخرج يوسف الحطاب، وكانت بطلتها خضرة محمد خضر وفرقتها، وأصبحوا من مشاهير المجتمع المصري والعربى الذى ظل يردد أسماءهم، وقرر بعدها “الحجاوي” خروج هذا العالم للنور بعد ان كان مقتصرا على الموالد، وتم لهذا السبب إنشاء قصور الثقافة في مختلف المحافظات.
رغم ذلك التعاون وقصة الحب التي جمعت خضرة و”الحجاوي” إلا أن زواجهما لم يستمر لأكثر من عامين، واتفقا بعدها على الانفصال، لكن مثلما كان زواجهما مثار حديث الكثيرين، كان طلاقهما مثار اهتمام الشارع المصري حيث جرى الطلاق وفق تقاليد الفنانيين الشعبيين والتي تقضي بأن يصبح الطرفين أخوين في الدم، من خلال طقوس يقوم فيها كل طرف بجرح إصبعه وأن يشرب كل منهما من دماء الآمر، وقد جرى ذلك في سرادق كبير على أنغام الفرقة الشعبية بامبابة واستمر التعاون بينهم في تقديم الأغاني الشعبية والمواويل.
قدمت خضرة محمد خضر عدد كبير من الأغاني والسير عبر الإذاعية المصرية، وكانت تقدم نصف ساعة أسبوعيا في الإذاعة بعد صلاة الجمعة، وأصبحت جزء لا يتجزأ من برنامج الأسرة المصرية كل جمعة. وفي السبعينيات والثمانينيات، ومن أشهر أعمالها “ايوب وناعسة” و”ولد الهلالية” و”ميتى أشوفك”، و”ملاعيب شيحة”، و”يا مسعد ياللي تصلي على النبي” وملحمة عمر بن الخطاب.
بعد النجاح الكبير الذي حققته في الإذاعة المصرية استعان بها صناع السينما في أواخر السبعينيات وشاركت في العديد من الأفلام مثل كثير من مطربي الغناء الشعبي في تلك الفترة والذي كان من أشهرهم الفنان محمد طه، ولكن مشاركاتها لم تخدم مسيرتها الفنية بشكل كبير، وكان من أبرز هذه الأعمال فيلم “شقة الطلبة” بطولة سعاد حسني وحسن يوسف وأحمد رمزي، تأليف أبو السعود الإبياري وإخراج طلبة رضوان. أما على الشاشة الصغيرة فاقتصر ظهورها على بعض السهرات والبرامج، وانضمت إلى فرقة الفنون الشعبية التابعة لوزارة الثقافة وقدمت العديد من الملاحم الشعبية من خلالها.
مسيرة حافلة قضتها الفنانة خضرة محمد خضر، قدمت من خلالها صورة حية للريف المصري، وخلدت من خلال أغانيها مخزونا تراثيا هائلا، تجاوز نطاق المحلية ليصل إبداعها للعديد من دول العالم العربي والغربي، لترحل عن عالمنا في 17 ديسمبر 1998.