محاسبة الأعمال الفنية
إسراء إبراهيم
خلال السنوات الأخيرة، أصبحت السوشيال ميديا عنصرا فعالا وقويا في تقييم الأعمال الفنية المطروحة، أو المنتظر طرحها، حتى أن بعض الآراء والانتقادات تسببت في وقف عرض بعض الأعمال الفنية بعد مشاهدة البروموهات الخاصة بها، بسبب تعليقات الجمهور الفنية على ما عُرض ضمن تلك البروموهات، وفي بعض الدول تسببت الانتقادات في وقف أعمال فنية ومنع عرضها. في بعض الأحيان تعليقات الجمهور الفنية والتقنية على العمل الفني تكون صحيحة وفي محلها، وعلى المهتمين بتطوير الصناعة وضعها في اعتبارهم لأن الأعمال الفنية بالأساس موجهة للجمهور، ومن هنا على الصناع إقناعهم بما يقدمونه في أعمالهم.
يواجه الفن بشكل عام إشكالية كبيرة في كثير من المجتمعات الأصولية والمحافظة، خلال العقود الأخيرة، حيث يتم تقييم الأعمال الفنية من منظور أخلاقي ومحاسبة صناع العمل، بل ورفضه قبل طرحه أو مشاهدته بناء على سيناريوهات متخيلة باسم الفيلم أو المسلسل أو القصة التي يدور حولها.
مع كل عمل فني يتناول الحديث عن مهنة ما أو بلد ما، نرى هجوما عنيفا من أصحاب تلك المهن أو البلد على العمل الفني بحجة تشويه أهل تلك البلد أو أصحاب تلك المهنة. الأمر الذي يضعنا أمام تساؤلا كيف ينظر الناس إلى الأعمال الفنية؟ هلي يعتبرونها الواقع الذي يهاجمونه عندما يكون المسلسل لا يليق أخلاقيا من وجهة نظرهم، أم هو من وحي الخيال؟!
الطبيعي منذ خلق الله الإنسان وجود الخير والشر، الفاسد والصالح، النافع والضار، فمن غير المعقول أن يصبح الجميع وكل المجتمع لائقا أخلاقيا كما تريد السوشيال ميديا، فليس أصحاب كل المهن أنبياء وصالحون، وليس كلهم فاسدون، لذلك عند تناول نموذج في مهنة ما لا يُسقط العمل الفني الأخطاء على أصحب المهنة نفسها.
هاجم البعض مسلسل “بالطو” بحجة أنه يسيء إلى أهل “مطوبس”، لأن أحداث العمل تدور في تلك المنطقة، ومن يتابع المسلسل لا يرى أي إساءة لأي منطقة في مصر، بل هي مواقف حياتية تحدث في أغلب قرى مصر التي لا زالت تعيش طبيعة الحياة الريفية.
على الرغم من أن فكرة محاكمة الأعمال الفنية من الأمور الجدلية التي يتم إثارتها باستمرار، إلا أن الأمر عبر منصات التواصل الاجتماعي أصبح مبالغ فيه، ووصل الأمر إلى أن الكثيرين أصبحوا يهاجمون العمل قبل مشاهدته، فتجد شخصا يهاجم عملا لم يشاهده بل “سمع من فلان” أو “شاهد ريفيو عند بتاع ريفيوهات!”، فأصبح التقييم للعمل مبني على السماع والحكم المسبق. ولعل آخر تلك التعليقات كانت ملحوظة بشكل كبير في مسلسل “أزمة منتصف العمر” الذي انتهى عرضه منذ ما يقرب من أسبوع.
موجة الانتقادات الحادة للعمل كانت تحاكمه أخلاقيا لأنه تناول مشكلة من وجهة نظرهم غير منتشرة في المجتمع، والبعض رأى أن تناول المسلسل لقضية “زنا المحارم” يشجع الناس على الوقوع فيه ويحاول ترويجه! وكأن الناس في انتظار عمل فني ليفسد أخلاقهم! المدهش أن ما نقرأ عنه ونشاهده في الأخبار وبرامج “التوك شو” مؤخرا من جرائم لها علاقة بتلك القضايا أغرب من أي عمل فني ممكن أن يتناول تلك القضية، وفي أغلب الأحيان تنتهي تلك القضايا بجرائم قتل لتنكشف الوقائع بعد جريمة بشعة تهز المجتمع.
ومهما اختلفنا حول دور الفن فلن تكون مهمته التسلية فقط، والمسلسل المقصود كان من الممكن انتقاده فنيا بطرق عديدة من حيث القصة التي تفتقد لعناصر المصداقية وكذلك الإخراج، والعديد من السقطات في السيناريو. لكن اكتفاء الجمهور بانتقاد عمل لم يشاهده بات أمرا غريبا، ولم يتوقف الأمر عند الجمهور العادي أو غير المنتسبين للمجال الفني، بل أصبح هناك عدد ممن يمتهنون مهنة الفن يرددون نفس الحديث، منهم إحدى الفنانات (مغنية) كانت تهاجم المسلسل يوميا عبر حسابها على “فيس بوك” وتتهمه بنشر الرزيلة والفساد في المجتمع، وتؤكد في كل منشور أنها لم ولن تشاهد العمل!
المسلسل انتهى عرضه قبل أسبوع من الآن ولم نرى انتشار فاحشة “زنا المحارم” في المجتمع تيمنا بما صنعه المسلسل. وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي توجه للأعمال الفنية فأننا نرى تناقضا شديدا أصبح واضحا في نظرة المجتمع لجرائم حقيقة أخلاقية، أقربها مثلا وجود حملات تعاطف مع القاتل والمحكوم عليه بالإعدام محمد عادل الذي قتل روخا بريئة بغير حق وهي نيرة أشرف، فنجد حملات تطلب الدعاء له لتدخله الجنة!
القضية الأخيرة هي الحكم على الأعمال من البوسترات الفنية، خلال الأيام الماضية رأينا هجوما كبيرا على الفنانة منى زكي بسبب الحكم على المسلسل من البوستر الدعائي! البعض اختلق قصة لا يناقشها المسلسل من الأساس وفجأة أصبح الناس يدافعون عن قضية الحجاب وشكل المحجبات دون انتظار طرح العمل!
الهجوم على بوستر مسلسل “تحت الوصاية” بطولة الفنانة منى زكي لم يكن الوحيد، لكنه كان الأكثر جدلا وخلق حوار مثير على السوشيال ميديا، فالبعض شارك بوسترات أخرى وبنى قصة متوقعة عن الأحداث قد تكون منطقية لو أن العمل تم عرضه وجاءت القصة كما توقعوا، لكن أعمال رمضان لا تُعرض في شعبان فلماذا يتعجل الجمهور؟!
هل الهجوم الأكبر على منى زكي تدفع ثمنه الممثلة الكبيرة بسبب مشاركتها في فيلم “أصحاب ولا أعز”، العمل الذي تم محاكمته أخلاقيا ومحاسبة الفنانة في حياتها الخاصة على مشهد في عمل فني لم يحدث كما ظهر على الشاشة. انتقادات كثيرة غير منطقية صاحبت الهجوم على منى زكي لا يستيطع أحد أن يعرف سببه حتى الآن.
أخبار الفنانين وحياتهم الخاصة وأجورهم في الأعمال الفنية باتت مصدرا للهجوم على الفنانين في كل عمل يقدمونه، خاصة الحديث عن الملايين التي يأخذها الفنانون، فيسقط الجمهور حالته الاقتصادية على الفنان في شكل هجوم ضاري وعنيف. الفوارق الطبقية التي أٌزيلت عبر السوشيال ميديا رغم تغلغلها في المجتمع، نمت الحقد والغيرة تجاه بعض فئات المجتمع من بينهم الفنانين، ما ساهم في أن يكون العنف والانتقاد مصحوبا بعنف لفظي شديد.
أصبح العنف سمة رئيسية عند الحديث عن الفنانين في تعليقات الجمهور على أعمالهم الفنية، عنف غير مبرر يربطه البعض بالدين وبالأخلاق والمحافظة على قيم المجتمع، فممكن أن تجد تعليقا يسب فنانا في عرضه وصاحب التعليق يضع في نفس الجملة آية قرأنية، فأصبح الفنان في موضوع غير مفهوم بالنسبة للجمهور، فلا تعلم إذا كان الفن مقدرا من الجمهور أو أنهم يرفضون الفن جملة بكل من يعمل به.
يعبر الكاتب الصحفي محمد عبد الرحمن عن تلك الحالة في كتابه “مدينة المليار رأي”، بقوله: “لماذا يُشغل أحدهم بما سيحدث لغيره يوم القيامة، خصوصا لو كان فنانا أو مشهورا وليس أخا أو ابنا أو قريبا من الدرجة الأولى؟.. لماذا يستدعي أحدهم يوم القيامة في تعليقات على مواقف كتلك؟.. من منا يضمن مصيره بعد الموت، فلماذا نستخدمه من الأساس في تلك السجالات الرقمية الفقاعية التي ما تلبث تذهب إلى فراغ ليأتي غيرها من فراغ آخر”.
عناد بعض الفنانين وعدم إدراكهم للفئة التي يستهدفونها، وطبيعة المجتمع التي أصبحنا عليها، جزء كبير من أزمة تعامل الجمهور مع أعمالهم. فالفنان لم يعد يقتنع بأي انتقاد يوجه له سواء كان على حق أم انتقاد سلبي، وبعضهم يفقد جزءا من تأثيره بسبب رده على جمهور السوشيال ميديا.
على مدار سنوات كان الفنانين يغازلون الجمهور بمصطلح الفن النظيف، وحاولوا جاهدين لسنوات أن تصبح السينما والفن الذي يقدمونه يميل إلى تلك النظرية، ومع تطور الحياة وتغير الأفكار والنضج أصبح بعض الفنانين أكثر جرأة فيما يتناولونه من موضوعات، خاصة مع الانفتاح السائد عالميا. ذلك التغير لم يتقبله الجمهور الذي كان يتغذى على تلك المصطلحات التي أطعمه إياها الفنانون لسنوات.
كذلك تصدير فكرة أن الفن يُعري الواقع ويكشفه في أغلب تصريحات الفنانين دون غيرها من الحديث عن دور الفن في المجتمع، أصبح يقابل بموجة مضادة من الرد لتبرير أن المجتمع لم يصل إلى كل ذلك الانحلال، وأن الفنانون عليهم النظر للمجتمع بصورة أخرى، أو أن يجملوا الواقع دون نقله كما هو.
الخلاف سيظل مستمرا بين دعاة حماية أخلاق المجتمع، وبين الراغبين في حرية الفن والإبداع. لكن إلى متى سنصل لاتفاق يُرضي جميع الأطراف، وهل سيحاول المسؤولين عن توجيه الفن للناس بدراسة التغيرات التي تحدث فيه، وكيفية مخاطبة الجمهور الذي تغذى لسنوات على أفكار ونظريات تتعلق بالدين ودور الفنان، ومراعاة أن الناس تدافع عن نفسها وأخلاقها حتى لو العمل لم يمسهم لكن أصبح رد الفعل الجماعي على المنصات الاجتماعية يحفز الجميع لعرض رأيه وإبداء وجهة نظره في كل الأمور.
وبات ضروريا وضع قوانين تنظم عملية السب والقذف على منصات التواصل الاجتماعي ليصبح أكثر انضباطا فيما يتعلق بحريه “شتم الغير”، لأن كل ما هو متروك بشكل عشوائي يحفز الجميع للعشوائية وطرح تعليقاتهم العنيفة والمؤذية في كل اتجاه.
يحتاج الفن أيضا إلى عودة دور النقاد واستماع الفنانين لما يقولونه، بدون التفكير في أن كل هجوم خلفه حملة مدفوعة لتشويه الفنان.