يرى كثيرون أن كلاوديو جينتيلي هو أعنف مدافع في تاريخ كرة القدم العالمية وليس الإيطالية فحسب، لكن صحيفة التايمز البريطانية سنة 2007 لم تتوِّجه بالمركز الأول بل وضعته في المركز الثامن على قائمتها لأكثر 50 لاعباً قسوةً في كرة القدم، وذلك نقلاً عن موقع صحيفة “الخليج” بتاريخ 12 أغسطس 2022.
ورغم أن مقولة “إما الكرة أو اللاعب” تُنسب إلى عدة مدافعين، فإن مصادر عديدة ترجّح أنها صدرت ابتداءً عن “جزار إيطاليا” الشهير. على موقع صحيفة “صدى البلد” بتاريخ 2 مارس 2022 أن “من أشهر المقولات التي كان يطلقها مدافع منتخب إيطاليا(جينتيلي): إما الكرة أو اللاعب، أحدهما فقط سيمرّ منّي، سأقطع (الآخر) بكل تأكيد… كرة القدم لعبة عنيفة، نحن هنا نقاتل لا نرقص الباليه”.
وإذا كانت شهرة المدافع الإيطالي نابعة إلى حد بعيد من شخصيته وأدائه العنيفين على أرض الملعب، فإن مكانته الكروية – خاصة لدى الإيطاليين – لم تتحقق من عنفه مجرّداً وإنما مما أسفر عنه ذلك الأداء العنيف إجمالاً من إنجازات لعل أبرزها المساهمة المؤثرة في تتويج إيطاليا بكأس العالم سنة 1982 من خلال إيقاف فعالية مهاجمين أسطوريين من طراز البرازيلي زيكو (أرثر أنتونيس كيومبرا) والأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا ذي الاثنين وعشرين عاماً حينها.
لا ريب أن جينتيلي أفاد كثيراً من مرونة قوانين الكرة التي لم تكن خلال تلك الحقب قد شرّعت بعد ما يكفي لحماية المهاجمين، ليس تشجيعاً للعب “النظيف” فحسب وإنما لإمتاع الجماهير من خلال تيسير إحراز المزيد من الأهداف. وعليه فإن أداء ومكانة وشهرة “الجزارين” من طراز كلاوديو جينتيلي كانت ستغدو على المحك لو أنهم لعبوا في ظلال القوانين المعدّلة في العديد من جوانبها لصالح الهدّافين، فجينتيلي ورفاقه – من المدرسة الدفاعية الشرسة – كانوا يعتمدون في المقام الأول على إرهاب المهاجمين معنوياً ومادياً، وهو ما لم يعد مجدياً بصورة أساسية لاحقاً لضمان أداء دفاعي فعّال. ولكن إنجاز أي لاعب يقاس على كل حال رجوعاً إلى الزمن الذي لعب خلاله بكل ما يحيط به من مؤثرات وليس استناداً إلى أزمنة سابقة أو لاحقة لها مؤثراتها الخاصة التي تحكم بدورها أداء وتقييم لاعبيها.
باولو مالديني ينتمي إلى جيل لاحق لجيل كلاوديو جينتيلي. أسلوب مالديني الدفاعي – الذي يمكن وصفه بالأكثر نظافة ولطافة – كفل له مكانة لا تقل عن مكانة جينتلي بل تفوقها بوضوح في سماوات الكرة الإيطالية والعالمية، حتى إنه حلّ في المركز الثاني بعد الليبيري جورج ويا في جائزة أفضل لاعب في العالم سنة 1995، وهي جائزة يسيطر عليها المهاجمون ولاعبو الوسط في معظم الأحيان، كما أحرز المركز الثالث في جائزة الكرة الذهبية سَنَتَيْ 1994 و2003، ما يعني أن مدافعاً يطمح إلى الأداء والإنجاز الفريدين يحتاج بصورة أساسية إلى الموهبة والعمل الدؤوب على تطويرها فنيّاً وليس إلى الشراسة. فوق ذلك، تربّع باولو مالديني على قلوب الإيطاليين وبخاصة عشاق ناديه إيه سي ميلان إلى درجة أن النادي عند اعتزاله حجب القميص رقم ثلاثة (الذي ورثه عن أبيه تشيزاري مالديني) ليرتديه من بعده أحد أبنائه في حال قرر اللعب للنادي نفسه، وهو ما حدث تقريباً مع أحد ابنيه (كريستيان ودانييل) اللذين لم يبلغا على كل حال إلى الآن مبلغ أبيهما من الإنجاز والشهرة.
أداء وسلوك باولو مالديني لا يعنيان أن حقبة اللعب الدفاعي الخشن قد ولّت إلى غير رجعة بعد زمان جينتيلي، سواء في إيطاليا أو سائر أرجاء العالم، فلاعب نادي إنتر ميلان ومنتخب إيطاليا ماركو ماتيراتزي لم يكن فقط في مثل قسوة كلاوديو جينتيلي بل زاد عليه بعضاً من أشد اللمحات إثارة على صعيد إساءة السلوك توّجها بما دفع زين الدين زيدان إلى “نطحته” الشهيرة التي تسببت في طرده (زيدان) في الدقائق الأخيرة من المباراة النهائية لبطولة كأس العالم سنة 2006، الموقف الذي جعل الجماهير تتعاطف – في مفارقة جديرة بالنظر – مع الناطح وليس المنطوح، وذلك بعد أن تسّربت الأسباب التي حملت “زيزو” المحبوب على ذلك التصرف “الثوري”.
لعل إيطاليا هي أبرز المنتخبات التي اشتهرت باعتمادها على اللعب الدفاعي، ربما العنيف بصورة أكثر خصوصية، عبر تاريخها بصفة عامة. لذلك ليس بِدْعاً أن يكون اللاعبون الثلاثة المختارون فيما مضى إيطاليين، مع ملاحظة أن قائمة المدافعين البارزين – سواء بداعي الأداء المتميز أو الشراسة المطلقة – تضم أسماء رنّانة من العديد من دول العالم لا إيطاليا وحدها.
مهما يكن من الأمر، القوة والشراسة ليستا حكراً على المدافعين، فثمة من اللاعبين على اختلاف مواقعهم في المستطيل الأخضر مَن يجارون المدافعين عنفاً وشراسة، وذلك ابتداءً من حرّاس المرمى ومروراً بلاعبي الوسط وانتهاءً بالمهاجمين على اختلاف مواقعهم ومهامهم الهجومية. إلى ذلك، يبدو المدافعون بصورة خاصة في موقع المظلوم كرويّاً أكثر من زملائهم في بقية أنحاء الميدان، فقوائم اللاعبين الأفضل وجوائزها قلّما تتسع لهم كما أشرنا، وأضواء الإعلام نادراً ما يتم تسليطها عليهم بقدر يُداني ما يحظى به زملاؤهم المهاجمون ولاعبو الوسط. من الصعب الالتفاف على حقيقة أن الجماهير المهووسة بكرة القدم تسعى إلى مشاهدة المباريات من أجل الأهداف والاستمتاع بمهارات المراوغة التي تكاد تكون حكراً على المهاجمين ولاعبي الوسط.
المدافعون مظلمون كذلك لأنهم بصفة عامة أقرب إلى أن يكونوا أكثر غَيرة في الذود عن فرقهم مقابل أنانية زملائهم المهاجمين – بصفة عامة أيضاً – المتمثلة في حرص كل منهم على إحراز الأهداف والظفر بالألقاب الفردية ليس على حساب منافسيه من مهاجمي الفرق الأخرى فحسب وإنما من قبلُ على حساب زملائه المهاجمين في الفريق نفسه.
ضمن كتاب “حكاية عامل غرف” الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع بأوتاوا الكندية سنة 2018، من ترجمة محمد الفولي لمختارات من أدب كرة القدم الأرجنتيني، يرِد ما يلي للكاتب والفنان الأرجنتيني روبرتو فونتاناروسا Roberto Fontanarrosa : “يقول البعض إن أفضل مركز في كرة القدم هو رأس الحتمال أن يكون أحدهم صاحب المركز الأهم في أنظار المشجعين والإعلاميين. فونتاناروسا يذكر رأس الحربة وصانع الألعاب في معرض الحديث عن صاحب المركز الأهم في كرة القدم، بل يشير حتى إلى المدير الفني قبل أن يؤكد أن الأهم هو عامل الغرف، وذلك في سياق ما ترمي إليه القصة من إيحاءات ودلالات. ربة، فيما يرى آخرون أنه صانع الألعاب. أتحدث عن صانع الألعاب بصورته القديمة، حينما كان مسؤولاً عن قيادة الفريق، اللاعب الأكثر مهارة وصاحب أكبر موهبة، لكن أقول دائماً إن الأفضل هو مركزي، مركز عامل الغرف، بكل ما تتضمنه المسألة من قمصان وسراويل قصيرة وأحذية، لأن العمل كمدير فني مصيبة، وصدقني فيما أقوله لأنني أعلم هذا”.
في مفتتح حكاية فونتاناروسا هذه إشارة عفوية إلى ما نتحدث عنه من غياب المدافعين عن اح
إذا كان المدافعون يغيبون عن الاهتمام الجماهيري والإعلامي لصالح زملائهم المهاجمين، فإنه لا عزاء لهم على الأرجح على هذا الصعيد أفضل من أن ثمة جندياً مجهولاً يفوقهم من حيث نسيان دوره الرئيس في الميدان، أعني حارس المرمى المنسي أغلب أوقات المباراة، حتى إذا عانقت إحدى الكرات شباك مرماه انهالت عليه اللعنات من كل حدب وصوب.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])