تخرج من منزلك، تتجه إلى عملك، تركب سيارتك، تسلك شوارع طويلة متباينة الزحام، يغلب عليها المطبات ما بين الطبيعي والاصطناعي مما يجعلها تبدو كوجه ترك الجديري المائي آثاره عليه مع الزمن فأصبحت جزء منه ومن معالمه. تتذكر ما قاله لك أحد أصدقائك عن موعد مباراة يعدها هو مهمة ومصيرية، بينما أنت لا ترى في ذلك أهمية فأنت لست من مشجعي نادي الزمالك. تتابع نشرة الأخبار في بلا اكتراث فمعظمها مكرر، أضف إلى ذلك ضعف النطق لدى المذيع يجعلك تغير المحطة، لتجد برنامجاً يطنطن لأعمال الوزير الفلاني وتحمد الله انك أتيت في نهايته لتكتشف أن البرنامج برعاية الوزارة التي يشاد بوزيرها منذ قليل، فتشعر بالغثيان وتغلق المذياع.
من تأثير حالة الضجر تقرر العدول عن الذهاب للعمل بنفس الطريق الذي تسلكه كل يوم، فتنحرف بسيارتك إلى اليمين وتسلك الطريق الطويل المؤدي إلى الكوبري المعلق وتجد نفسك عالقاً مع العالقين هناك، تتفحص الوجوه التي حولك في السيارات الأخرى، تجدها تزأر بالملل والضجر من الاحتباس المروري الذي تعيشه العاصمة كل يوم، وتسأل نفسك وكأنك تسألهم “إذا كان هذا هو الحال فلماذا الضجر؟” وبالطبع لا تجد إجابة.
تنفرج عقدة الزحام بعض الشيء وتتحرك السيارات، وتجد نفسك وسط عدد آخر من السيارات التي يبدو وكأنهم فريق واحد حيث تنطلق منها أصوات أغانٍ شعبية ويطل عدد من راكبيها من النوافذ ويتعلق بعضهم بأسقف السيارات وهناك في المقدمة تلوح سيارة نقل محملة بالأثاث المنزلي فتفهم بأن تلك هي رحلة وصول أثاث العروسان إلى بيت الزوجية، ولا تفهم سر الاحتفال الصاخب بهذا الحدث. تم الدقائق متلاحقة وأنت في نفس مكانك، تتابع عقارب الساعة وهي تجري وأنت متوقف في مكانك لا تدري متى تنفك تلك الأزمة.
تبدأ السيارات في التحرك فتنفرج أساريرك وتضغط على دواسة البنزين لتسرع إلى الأمام ظناً منك بأن الزحام إلى زوال، وما أن تلبث في التسارع إلا وتجد أنك قد توقفت مرة أخرى، لكن في وسط مجموعة أخرى من السيارات، تمعن النظر في الوجوه لعلك تجد من يتبرع بتفسير لما يحدث من زحام، لا تجد أي انطباع سوى أن بعض الوجوه تبدو لمواطنين من أمثالك يرهقهم الانتظار في الزحام وأغرق جباههم العرق، وفجأة تجد من يضرب آلة تنبه سيارته من خلفك وكإنما يستحثك على التحرك إلى الأمام فالطريق فارغ، أو يبدو أنه سائق لسيارة شخصية مهمة يريد المرور، أو مع في السيارة شخص مريض أو إمرأة حامل على وشك الوضع، تستدير لترى قائد السيارة التي خلفك لتتحقق من الأمر فتجده سيارة أجرة لا أحد بها سوى قائدها، فلا هو أي من تلك الأحوال التي قد تكون اضطرته لقرع آلة تنبيهه بتلك الوتيرة المزعجة، فتتجاهل الأمر، يصمط قائد التاكسي، تمر لحظات من الهدوء الغريب، تبدأ في سماع صوت تنبيه قد يكون للشرطة أو للإسعاف، لا تستطيع التحديد، تنظر في مرآة السيارة لترى إيهما هو ما يصدرالصوت ولتحاول تحديد مكانه لعلك تستطيع المساعدة في الانحراف بسيارتك بشكل يتيح لسيارة الاسعاف المرور، لا تستطيع رؤية شيء واضح في المرآة تنظر في المرايا الجانبية لا تتبين شيء أيضا، وتبقى سارينة التنبيه تدق وتخرج أنت رأسك من نافذة السيارة مستعلماً لتجد سيارة عادية في مكان ما خلفك تطلق تلك السارينة، السيارة يقودها شاب ذو شعر طويل يصنع منه ما يسمى ذيل حصان ويتمايل مع أنغام موسيقى داخل سيارته التي أغلق نوافذها الزجاجية وقام بتسويد زجاجها لإضفاء صفة الأهمية والغموض على راكبها، فتعلم ان صوت انذار السارينة لم يكن سوى بلاغ كاذب، تنظرإليه بامتعاض ثم تتجاهل الأمر خاصة بعد انفراج الزحام فجاءة وانطلاق السيارات التي أمامك وتنطلق أنت معهم. تقترب السيارة فوق الكوبري الطويل من تجمع لأشخاص وبينهم شرطيي مرور يشيرون بأيديهم يستحثون السيارات الاسراع بالمرور، ثم تمر سيارة الشاب ذو الشعر الطويل والنوافذ المسودة ويؤدون له التحية مع ابتسامة عريضة بينما هو يطلق سارينة سيارته المزيفة.
تنهي رحلتك على الكوبري الطويل، تشعر بالإرهاق الناتج عن التوتر العصبي، وتقرر أن تتوقف على جانب الطريق، وتترجل إلى الشارع، وتقف لتستند إلى السيارة محاولاً أن تلقي بالإرهاق جانباً لتكمل رحلتك، لكنك تتوقف لبرهة لتسأل نفسك “إلى أين كنت أنا متجه؟” وبينما انت تحاول الإجابة في وسط كم كبير من السيارات المتلاحقة في الطريق الذي تقف على جانبه، تظهر سيارة شرطة يأمرك قائدها بسرعة التحرك وإلا تعرضت للمساءلة !، تسأله عما اقترفته من ذنب، ينهرك ويأمر بسرعة التحرك لدواعٍ إمنية، حيث اقترب مرور موكب شخصية مهمة وينبغي عدم وجودك في هذا المكان، تستجيب للأمر مبدياً ذلك بهز رأسك والتحرك نحو باب السيارة وسط استعجال رجل الشرطة، فجاءة تدوي صفارات انذار عديدة ومتلاحقة، تستدير لتجد كماً من السيارات الرسمية مكونة موكباً رسمياً قادمة من على بعد ومع اقترابها تظهر سيارة في أول القافلة، تقترب السيارات وانت في مكانك وتختلط أصوات الانذار بصوت الشرطي الذي يأمرك بسرعة التحرك، لا تستطيع تبين كلمات الشرطي ولا ما يقوله فقد اقترب الموكب اكثر وأصبح بينك وبينه عدة أمتار، تتابع الموقف بلا حراك، ترى السيارة الأولى في الموكب وتتعرف عليها إنها سيارة ذلك الشاب الذي كان يطلق إنذاراً مزيفاً في زحام الكوبري، نعم هو بتسويده لزجاج نوافذ سيارته، وبشعره الطويل، تجد الشاب نفسه ينظر إليك ويفتح زجاج نافذة سيارته مبتسماً في غرور، وتسمع صوت اغنية تصدح من سيارته تقول “أنا أهُه .. وأنت أهُه.. والزمان أهو بينا أهُه”.