ساعة وخمس وأربعون دقيقة من المهانة الإنسانية، انتفضت فيها الإعلامية الشهيرة استنادا إلى 31 كرتونة ملابس مستعملة، وزعتها باسم مصر ونظامها وشعبها على اللاجئين السوريين بمخيمات الحدود مع لبنان، فأهانت مصر ونظامها وشعبها.
أهانت مصر عندما عرضت المهزلة على وقع نشيد بلادى، ولفت هدوم البالة المستعملة فى علم مصر، على طريقة تغطية جثمان الشهيد.
وأهانت نظامها عندما انطلقت بالشاحنة وهى تأكل الميكروفون كلاما، وترفع علامة النصر، وتتصور مع بوستر تفويض السيسى. ورد معارضو الرئيس عليها بصور للشعب المصرى يتلقى معونات الجيش، وقالوا: ماحدش متهان هنا وهناك غير الفقير.
ثم أهانت المصريين وهى تقدم باسمهم هذه المساهمة المتواضعة، بلغة متغطرسة تمن على اللاجئين، وتذكر بحسنات الست المذيعة سابقا. «أكيد شفتوا أهالى الصعيد كانوا مبسوطين ازاى بالهدوم اللى قدمناها لهم».
بطريقة مبتذلة وبأسلوب الباعة فى 26 يوليو، تم تعليق الهدوم على صندوق الشاحنة، «الكيس الواحد فيه نحو عشر حتت»، ثم دخلت إلى المخيم لتستمتع بلمعة الفضول فى عيون الأطفال والنساء، وتبدأ التوزيع على خلفية الناى الحزين، وموسيقى تقطع القلب، وعلى شريط الشاشة «أطفال سوريا يتقدمون بخالص الشكر لشعب مصر، يا مصريين شكرا».
اللقطات البطيئة كانت تظهرها على سيارة الهدوم المستعملة، والأيادى تمتد إليها فى الفراغ، كأنها طقوس صلاة وثنية حزينة وإجبارية، كأنها خناقة على الطعام فى أى جبلاية وحوش.
«زى ما انتو شايفين الهجوم على الحاجة مريع، وصوتى راح من كتر ما أنا اتبهدلت بصراحة، الهجوم كان صعب شوية، قد إيه احنا شعب راقى ومؤدب وأخلاقه عالية».
طيب والسوريون؟
كانت خلاصة الحلقة التى صبرت على مشاهدتها كاملة هو ما دونه يسرى فودة: «السوريين اتبهدلوا واتشردوا وبيشحتوا واحنا حلوين وبنعطف عليهم، واللى مش عاجبه حالنا فى مصر هنبقى زيهم، وموسيقى أنا يتيم شغالة إزاى!».
إنها حقبة رديئة للإعلام المصرى، سيقول التاريخ عنها: ودخل الاعلام المصرى فى حالة من الريهام سعيد استمرت عشر سنوات، كما كتب الساخر إبراهيم الجارحى.
حقبة «بالوعات الصرف الإعلامى» بدأت بعد الموت الإكلينيكى لإعلام الدولة. إعلام لم يعد يخدم النظام لأنه فقد علاقته بالمهنة من سنوات طويلة، ولا يخدم المواطن الذى هرب من موضوعات التعبير فى ماسبيرو، إلى مدينة الملاهى على الشاشات الخاصة.
وتتميز هذه الحقبة بتوحش الإعلام الخاص فى خدمة الأنظمة المتعاقبة، والترويج لرأس المال السياسى بكل ألوانه وأقنعته، حتى نجح فى القضاء على أخلاق المهنة وإنسانيتها، والخروج نهائيا من ولائه المقدس للمواطن.
ويتزامن انهيار الإعلام مع لحظة قاسية فى رماديتها سياسيا وإنسانيا، نفقد فيها دراما التنوع الطبيعى فى السياسة والأحزاب والإعلام، وحتى فى الموسيقى والسينما. يتأخر البرلمان، ومن قبل مولده يخافون من شكله ونوابه، والصلاحيات والصلاحيات المضادة، فى ظل صراع الفلوس والنفوذ، والقوائم الانتخابية الغارقة فى حب مصر. لحظة رمادية تطمس عنفوان الناس الذى فاجأهم قبل سنوات قليلة، وتصيبنا جميعا بالإحباط، فالشعب أصبح مطاردا من جديد بآلات القمع السياسى والإعلامى، ولا عزاء للميادين.
«لو حد قال ان شخص جاب معونات ووقف بميكروفون وكاميرا وسط لاجئين يشمت فيهم ماكنتش صدقت، بس المذيعة دى موجودة فى عالمنا وعملت كده».
موجودة ومستمرة وتتمدد برعاية المستفيدين من هذه البلاهة، وتلك هى قمة الإعجاز المصرى.