“كان زيدان يتمتع بحاسة سمع بالغة الحدة في أثناء المباريات، فقد كان يستطيع أن يسمع من بين الجماهير متفرّجاً يسعل أو آخر يهمس للجالسين إلى جواره في المدرجات… يتذكر زيدان أنه كان في طفولته يعلِّق على نفسه وهو يلعب”.
في معرض حديثه عن زين الدين زيدان، وذلك من خلال استعراض بعض لمحات الفيلم الذي يحمل اسم أسطورة المنتخب الفرنسي من إخراج دوغلاس غوردون وفيليب بارينو سنة 2006، يكمل أستاذ الفلسفة البريطاني سايمون كريتشلي Simon Critchley عبر كتابه “فيمَ نفكّر حين نفكّر في كرة القدم؟” الصادر عن دار مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة سنة 2017: “لقد اقترب فيلم زيدان من جوهر اللعبة، كما لم يفعل شيء آخر؛ غالباً لأن الحب الخالص لكرة القدم كان الدافع وراء إخراجه.
أما نحن فليس باستطاعتنا سوى الاقتراب فحسب. يتذكر زيدان كيف كان يسرع ليجلس أقرب ما يكون لشاشة التلفاز ليشاهد البرنامج التلفزيوني الفرنسي “تيلي فوت” Téléfoot، ويستمع في إنصات إلى صوت المعلّق بيير كانيوني Pierre Cangioni.
يأسرنا زيدان حين يقول إنه لم يكن ينجذب لمضمون كلام المعلّق، بل إلى نبرته، لهجته، الأجواء العامة للتعليق. مثل هذه الأجواء هي التي يحاول فيلم زيدان أن يستحضرها، وأن يجذبنا إليها، استحضار المكان، الصعيد العلوي، وقت الأنفاس بين الشهيق والزفير”.
لم يكن من السهل أن يتخيّل عشاق الكرة في أيٍّ من بقاع العالم خلال الثمانينيات الماضية أن أسطورةً فرنسية في كرة القدم يمكن أن تزاحم ميشيل بلاتيني، فضلاً عن أن تتجاوزه، ولكن ذلك حدث بالفعل خلال نحو عشرة أعوام، فزين الدين زيدان لم يتربّع على عرش الكرة الفرنسية فحسب، بل أصبح أحد أعظم لاعبي كرة القدم في العالم على مر العصور، وزاد على ذلك بأن تربّع على قلوب معظم عشاق الرياضة الأكثر شعبية في العالم بأسره.
أسطورية زيدان لا تُنسِي على كل حال أسطورية بلاتيني الخاصة بدورها. ورغم أن زيدان مشهور بأناقته، ليست الشخصية فقط وإنما تلك المتعلقة بطريقته في اللعب، فإن ميشيل بلاتيني أحق عندي بوصفه بالأناقة عندما يتعلق الأمر بطريقة اللعب مجردة. تجلّت مهارة بلاتيني مع الكرة في أسلوب اللمسة الواحدة أو اللمستين على الأكثر، سواءٌ أكانت تلك اللمسة استقبالاً بديعاً للكرة، أو من أجل تمريرها لزميل بعد مراوغة عابرة، أو حتى بداعي تسديدها مباشرة في المرمى.
بلاتيني لاعب جعل منه أسلوب لعبه نجماً من الصعب أن تتطرّق إليه الأنانية، فهو لم يكن يفضِّل الاستحواذ على الكرة عادةً لأكثر من لمسة أو لمستين كما رأينا. لمساته ذكية وماكرة وآسرة، وهو من الأفضل عبر التاريخ في تسديد الكرات الثابتة الملتوية. لكن إنجازاته مع المنتخب الفرنسي لم تكن على كل حال كثيرة، فأبرزها كان تألّقه في بطولة الأمم الأوروبية سنة 1984 والفوز مع المنتخب الفرنسي بكأس البطولة.
أما سجلّه الفردي فحافل بالألقاب، لكن يظل عدم فوز فرنسا بكأس العالم في عهده من أبرز ما يخصم من رصيد أسطوريّته ليس لصالح زين الدين زيدان فحسب وإنما أيضاً لصالح كيليان مبابي الذي لعب ضمن منتخب فرنسا الفائز بكأس العالم سنة 2018 وأحرز أربعة أهداف كما نال جائزة أفضل لاعب صاعد في البطولة. ومثلما هو واضح فإن الطريق أمام مبابي ممهّد للمزيد من الإنجازات العظيمة، وإن يكن ليس ثمة ما هو مضمون تحديداً مع كأس العالم، البطولة الرياضية العظمى التي تتداخل عوامل كثيرة ومعقدة في حسم نتيجتها النهائية كل مرة.
مقارنة مع بلاتيني يبدو زيدان، خلَفُه في المجد الأسطوري الفرنسي، أكثر ولعاً بالمراوغة، وأكثر رغبة في الاحتفاظ بالكرة بصفة عامة، ولكن ليس طويلاً بل على الأرجح للمسة أخرى أو لمستين أخريين زيادة على لمستَيْ ميشيل بلاتيني.
مهارة زيدان الأكثر خصوصية تتجلّى في استقباله المميّز للكرات العالية، أو المرتفعة قليلاً عن الأرض، والتحكم بها ببعض الدوران/الالتفاف. زيدان ظلّ يجيد ذلك الأسلوب ويفضّله حتى في المراوغة أو عند التسديد نحو المرمى. أمّا أهم ما يميز تمريرات زيدان فهو أنها كانت خاطفة وذكية بحيث يصعب إلى حدّ بعيد توقّعها.
وإذا كانت أسطورة زيدان قد طغت لاحقاً كما لم يكن يتوقّع أحد خلال الثمانينيات الماضية على أسطورة بلاتيني، فإن الأسطورة التي يتم تشكّلها الآن على ما يبدو هي أسطورة الفتى كيليان، إذ يرى كثير من المحللين الرياضيين أن كيليان مبابي لن يتجاوز فقط زين الدين زيدان على صعيد الإنجازين الفرنسي والعالمي وإنما من الوارد بقوة أن يستحوذ على لقب “الأعظم على مرّ العصور” إذا استمر أداؤه وإنجازاته بذات الوتيرة.
من حيث المهارات الفنية، لم يكن بلاتيني ولا حتى زيدان يحسنان اختراق المدافعين ومراوغة جملة منهم ثم إحراز – أو صناعة – هدف بمجهود فردي مثلما يفعل مبابي بثقة عادةً مراراً خلال المباراة. ولكن مهارة القدرة على الاحتفاظ بالكرة والمراوغة الفعّالة لعدد معتبر من الخصوم ليست كل ما يتميز به مبابي مقارنة ببلاتيني وزيدان، فالسرعة الهائلة هي إحدى أبرز سمات “فتى فرنسا الذهبي” إفريقي/عربي الأصول.
سرعة اللاعب مهما تبلغ من القوة لن تكون ذات قيمة إذا لم يصاحبها تحكم دقيق في الكرة وقدرة على التصرف الأمثل بها من قِبل اللاعب وهو يدفعها أمامه راكضاً بسرعة الصاروخ. هذا تحديداً ما يبرع فيه كيليان مبابي، فهو من أبرز اللاعبين في تاريخ الكرة جمعاً بين السرعة الفائقة والتحكم البارع. بمزيد من الدقة، ما يميز كيليان ليس سرعته بصفة عامة وإنما تسارعه العالي خلال بضع ثوان وقدرته على التغيير المفاجئ للسرعة والاتجاه. كل تلك المهارات تتوّجها قدرة لافتة على إحراز الأهداف وقلب النتائج لصالح فريقه في أي وقت من عمر المباراة، ولعل هذا هو أرفع ما يرجوه المدرب والجماهير على حدّ سواء من أيٍّ من اللاعبين.
يشكو معجبو مبابي من أنه كان الأجدر بالعديد من جوائز الـ”فيفا” التي ذهبت إلى غيره في أكثر من مناسبة. وإذا كانت الـ”فيفا” تملك مبرراتها الخاصة ضمن عوامل معقده تتشابك في ترجيح كفة أحد اللاعبين على زملائه المرشحين للفوز بهذه الجائزة أو تلك، فإن لسان حال الـ”فيفا” يبدو كما لو كان يقول لكيليان مبابي: لا تتعجل، فبوّابة مستقبل الجوائز العالمية في كرة القدم مفتوحة على مصراعيها أمامك.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])