“الشهد والدموع” منتصف الثمانينيات الماضية، “ليالي الحلمية” أواخر الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، “أرابيسك” منتصف التسعينيات، “زيزينيا” أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، “المصراوية” النصف الثاني من العقد الأول للألفية الجديدة. تلك بضعة أعمال شكّلت ملامح أمسيات رمضان على مدى ربع قرن تقريباً في مختلف أنحاء العالم العربي وليس في مصر وحدها، وذلك عبر عالم الدراما التلفزيونية لأحد أبرز كتّابها عربياً، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق.
شهد التلفزيون العربي، المصري بشكل أكثر خصوصية، العديد من الأعمال الدرامية المتميزة خلال رمضان على مدى تاريخه إلى جانب “الفوازير” التي ظلت لأمد طويل النهكة الأبرز لشهر الصيام بعد الإفطار في التلفزيون، وذلك بما امتدّ فشكّل وجدانيات الجماهير الرمضانية إلى مدى بعيد خارج إطار الشاشة الصغيرة التي كانت وافرة السحر حينها (ألا تزال؟).
كانت ثمة مسلسلات “رمضانية” متميزة خلال حقبة “ما قبل أسامة أنور عكاشة”، وكان بعض تلك المسلسلات يتناول ما يمس موضوعاً رمضانياً بطريقة مباشرة أو شبه مباشرة (مسلسل “صيام صيام” مفتتح الثمانينات الماضية على سبيل المثال).
التحدّي الذي واجه عكاشة على الأرجح مع الدراما الرمضانية لم يكن أن يصنع عملاً متميزاً في تناول موضوع رمضاني، بل أن يصنع عملاً متميزاً بصفة مطلقة يمنح الشهر الذي اشتهر بالزخم الإعلامي خصوصية درامية حتى إذا كان ما يتناوله من مواضيع لا يمت إلى الصيام بصلة مباشرة، وهو تحدّ درامي كما نرى قبل أن يكون تحدّياً “رمضانياً”، وقد كان عكاشة الطامح إلى التفرّد يدرك لا ريب أن العمل المتميز فنيّاً يبقى فريد الأثر بما يخلع سحره على الأجواء التي تحيط به مهما تكن، وعندما تكون تلك الأجواء هي رمضان بهالته الباهية والجليلة فإن مما يضاعف حظ العمل الدرامي المتقن أنّ أجواء الشهر الكريم ستخلع بدورها سحرها على ذلك العمل بما يكسبه خصوصية فريدة في ذاكرة ووجدان الجماهير على مدى الأجيال.
بداية الإطلالة الرمضانية المتميّزة للدراما العكاشية كانت مع “الشهد والدموع”، أمّا ذروة تلك الإطلالة فقد كانت “ليالي الحلمية”، خاصة بما شكّلته من وعد متجدّد بالظهور الرمضاني المتوالي الذي شكّل بدوره سابقة متميزة لمسلسلات “الأجزاء” التي لا تفقد بريقها بل تبعث على التشويق بترقّب الانتظار من عام إلى عام.
وعلى غير ما كان يؤمّل أسامة أنور عكاشة، فإن الملحمة التي جسّدت تاريخ مصر الحديث هي “ليالي الحلمية” وليست “المصراوية” التي لم يُقدَّر لها أن تكتمل فتوقفت عند فصلها الثاني. وإذا كان من الصعب الحكم على مدى تحقّق النجاح لعمل لم يكتمل، فإن جزأي “المصراوية” قد حملا لا ريب ملامح الدراما العكاشية مكتملة النضج، لكنهما على الأرجح لم يبشّرا بتحطيم أسطورة “ليالي الحلمية” من حيث التوسّد في وجدان الجماهير عندما يتعلق الأمر بالملاحم الدرامية التلفزيونية الخالدة، والأعمال التلفزيونية التي يمكن أن تُوصف بكونها “ملحمية” لا تزال على كل حال معدودة على إصبعين أو ثلاث على الصعيد الدرامي العربي برمّته.
اللافت أن “ليالي الحلمية” قد اكتسبت حظوتها الجماهيرية بما يمكن الإشارة إليه على أنه مزيج البراعة الفنية وعفوية التناول بعيداً عن السطوة التي يخلعها – مسبّقاً أو لاحقاً – صيتُ الأعمال الملحمية الكبرى، ويبدو أن عكاشة لم يكن يقصد ابتداءً ملحمية العمل بالصورة التي انتهى إليها بعد أجزائه الخمسة قدرَ ما كانت تدفعه على الأرجح أصداءُ النجاح المدوّي كلَّ مرة إلى حفز المزيد من القصص فتتوالد من رحم الحكاية الأم وتزدهر وصولاً إلى الجيل الخامس.
نجاح الأعمال التفلزيونية جماهيرياً ليس متناسباً في اطّراد بالضرورة مع قيمتها الفنية، وإذا كانت أعمال عكاشة قد أفلحت في الجمع بين القيمة الفنية الرفيعة والذيوع الجماهيري الساحق، فإن تلك الأعمال قد تفاوتت فيما بينها بطبيعة الحال، ولم يكن أرفعها قيمة من الوجهة الفنية هو أكثرها ذيوعاً بالضرورة، ولا أزال أرى أن “النوّة” – على سبيل المثال – يمثل من حيث الوجهة الفنية الصرفة تميّزاً فريداً في سلسلة الدراما العكاشية رغم أنه لم يبق في الذاكرة الجماهيرية في مقدّمة الأعمال التي يتلذّذ متابعو عكاشة بإعادة الفرجة عليها على نحو ما حدث مع “ليالي الحلمية” و”أرابيسك” و”زيزينيا” و”الراية البيضا” على سبيل المثال.
الحظ في النجاح، لا سيما القبول الجماهيري الطاغي، قدَرٌ لا يمكن لأحد أن يتنبأ به جازماً حتى مبدع العمل نفسه. مع الدراما التلفزيوينة تتعدّد العوامل المؤثرة في ذيوع العمل وتتشابك تشابكاً معقداً بحيث تبقى القدرة على الإبهار هي أقصى ما يمكن أن يراهن عليه باطمئنان منتجو الأعمال الضخمة مسبّقاً، أمّا النفاذ إلى قلوب الجماهير فهو الحظ الذي يصعب التكهّن به بدقة قبل الانتهاء من العمل وعرضه، تماماً كما يصعب نسخُه لضمان نجاح مماثل لأعمال لاحقة.
إذا كان أسامة أنور عكاشة قد عرف كيف يأسر الناس سنوياً بأعمال استثنائية لأكثر من ربع قرن من عمر الدراما التلفزيونية، فإن الرجل كان لا ريب محظوظاً بأن ينفرد بوجدان الجماهير الدرامي خلال رمضان لأمد ليس بالقصير، مع ملاحظة أنه خاض تجربة خاصة مع عملين في أواخر مسيرته هما “كناريا وشركاه” و”عفاريت السيالة”، فقد اختار – كما أشرنا في كتاب مستقل عن أعماله – أن يطلّ في سنة واحدة على مشاهديه بعملين يعرض أحدهما قبل رمضان والآخر بعده دون أن يكون له عمل معروض في الشهر الأكثر زخماً بالمسلسلات، مرجّحين أنه “ربما فعل ذلك من باب الثقة في أن أعماله قادرة على أن تملأ الدنيا وتشغل الناس قبل الموعد المقرر لهم سنوياً للانشغال وفي أعقاب خروجهم معرضين من تخمة الشهر الفضيل”.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])