وقعت الصدمة الأولى عربياً أوائل الثمانينيات الماضية حين دخلت “الكاميرا الخفية” البيوت العربية عبر برنامج حمل نفس الاسم الذي ظلّ عالقاً لأمد طويل من عمر الأعمال التلفزيونية الرمضانية بمزيج حادّ من الإثارة والسخرية والجدال امتدّ فأفرز تأثيراً وجدانياً فريداً على يوميات الناس الساخرة على مدار العام متجاوزاً موسم عرضه السنوي خلال الشهر الكريم الغاصّ بالأعمال الفنية من كل جنس ولون.
بدا واضحاً منذ الوهلة الأولى أن فكرة البرنامج الجديدة كليّاً حينها – والمبنيّة على التلصّص وحياكة المقالب والسخرية الحادّة – قادرة على أن تزوّد نفسها بما يكفي من الوقود لمواصلة انطلاقتها والصمود في وجه الاعتراضات الهائلة المتوقعة سلفاً والتي انهالت بالفعل بموازاة الإقبال العريض على البدعة التلفزيونية الرمضانية المعرّبة من أصول أمريكية بتصرّف اقتضته طبيعة المجتمع، سواءٌ من جهة التقاليد التي يجب أن تراعي طبيعة المقالب أو الحس الفكاهي الذي ينبغي أن يتماشى مع روح المجتمع العربي.
لم يكن منطقياً أن تختفي بدعة إعلامية لاقت نجاحاً هائلاً في الإقبال الجماهيري بسبب ما تواجهه من اعتراضات ذات دوافع أخلاقية عامة، وإن يكن من الحكمة النظر في إمكانية تخفيف حدة المقالب للتهوين من شدّة النقد الأخلاقي المصوّب نحو البدعة التلفزيونية خارقة النجاح جماهيرياً. ولكن ما حدث أن “الكاميرا الخفية” استمرت، ليس فقط بنفس مستوى المقالب، وإنما غالباً بالتنافس من خلال المزايدة في حدة لسعة المقلب والتفنّن في ابتداع مناطق محظورة من خصوصيات الضحايا لم تكن مطروقة من قبل.
هذا، ولم تخلُ الساحة العربية من محاولات عديدة لإكساء المقالب مسحة أخلاقية أكثر قبولاً، مثلاً باستضافة نقاد للتعليق على المقلب بعد عرضه وتقييمه فنيّاً واجتماعياً وأخلاقياً، لكنّ تلك المحاولات لم تفلح في زحزحة صورة “الكاميرا الخفية” عن مستقرّها في وجدان الجماهير بوصفها تسلية لا مناص من أن يكتنفها بعض أو كثير من الإثم لتكتمل متعتها.
استمر العرض إذن بأفكار “شيطانية” متجددة وأسماء تعدّدت لا لتتجاوز فكرة “الخفاء” فحسب – بعد أن أصبحت المقالب تُحاك والكاميرا أمام الضحية – بل لتستوعب بصورة موازية تنوّع المواضيع التي نجحت الفكرة في أن تشملها بالتغطية في صحبة مقدّمين تهافتوا إلى الموضة الرمضانية شديدة الرواج من كل سماء فنيّة.
أربعون عاماً شهدت عبرها “الكاميرا الخفية” الكثير من حالات المدّ والجزر من حيث التنوّع والتوهّج، لكنها لم تختف أبداً مع مطلع كل رمضان. كانت المزايدة على حدّة المقالب ضرورة لضمان المحافظة على جماهيرية العرض بالتجديد وتحفيز زيادة الإقبال عليه من جهة، ولمجابهة المآخذ الأخلاقية على العمل من جهة أخرى من خلال تعويض الحرج الأخلاقي بمحتوى لا يقاوم من التسلية وقد عزّ على القائمين على أمر البرنامج في نسخه المتوالية إقناع المعارضين بحجج أخلاقية مضادة تسوّغ استمرار الضحك على الآخرين – دع عنك العبث بكرامتهم – بضمير مستريح.
على امتداد العقود الأربعة من عمر العمل الرمضاني الشهير، شهدت سوق “الكاميرا الخفية” الغث والسمين من المواد المقدمة، كما توالت عليها مواهب شديدة التباين من حيث براعة التمثيل والتقديم. وربما أمكن القول – ببعض المرونة في التعبير – إن السحر قد انقلب على الساحر مؤخراً حين بات الضحيةَ المشاهيرُ من نجوم الفن والإعلام والرياضة وليس مواطناً مغلوباً على أمره تُنصب له الفخاخ وهو في سبيله إلى قضاء مصلحة ملحّة لأيٍّ من نواحي حياته المكدّسة بالأعباء.
هكذا، لم تعد تشبع طموحَ الجماهير الحريصة على متابعة العمل ضحيةٌ دون منزلة النجوم على اختلاف سماواتها الجاذبة لاهتمام الناس، وتغيّرت المسألة الأخلاقية بصورة موازية لدى المعارضين لفكرة العمل من تعاطف مع عابر سبيل مسكين إلى استهجان لأسماء بارزة لا ترى بأساً بأن تريق ماء وجهها من أجل حفنة (ثقيلة) من المال، سواءٌ تحت إلحاح حاجة ماسة في أعقاب نجومية آفلة أو إرضاءً للجهة المنتجة التي تمسك بزمام عدد ليس باليسير من الأعمال الفنية الكبيرة التي يطمح إلى المشاركة فيها أبطال لا يزالون في كامل ألقهم الإعلامي.
بُعيد سنوات من توالي صدمة الجماهير وهم يتابعون نجومهم الضحايا ويحمّلونهم مسؤولية الموافقة على فكرة مشينة من أجل المال والظهور، وجد المشاهد نفسه مسؤولاً بصورة مباشرة عمّا يجري مهما يكن الوصف الذي يستحقه الحدث، فلولا الإقبال الجماهيري منقطع النظير لما تسنّى لذلك العمل أن يستمر.
هكذا لم يعد أمام المشاهد الذي لا يستطيع الكف عن متابعة العمل سوى الإقرار بأنه مشارك في لعبة لم تعد ضحيتها بريئة بحال بل باتت جزءاً من تلك اللعبة التي يبدو أن القائمين عليها أزاحوا عن كواهلهم تماماً عبء التساؤل الأخلاقي وأضحوا يراهنون باستماتة على كسر الأرقام القياسية في جرأة الإثارة وبعثرة كرامة النجوم.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])